د. مهدي صالح دوّاي على مر العصور والأزمنة شغلت قضايا السكان أذهان الساسة والمفكرين على مختلف تخصصاتهم وتطلعاتهم للتعامل مع هذا المتغير الخطير، فصيغت تبعا" لذلك نظريات تشاؤمية وأخرى تفاؤلية، فالملاحظ أن كل ثورة أو اكتشاف تكنولوجي يذهب بالرقم الديموغرافي نحو الايجابية بعد أن انتقلت مراكز القوى من رأس المال المادي إلى رأس المال البشري، وقد ساهمت تخصصات الجغرافية السكانية والإحصاء السكاني في إيصالنا إلى نتائج علمية ثمينة تتعلق بتحركات السكان نوعيا"
وكميا" بهدف استخلاص النتائج، ووضع الرؤى وتصميم البرامج والخطط المستقبلية.وتماشيا" مع الهيكل العمري، تم توصيف الهرم السكاني بثلاثة مستويات؛ دون سن العمل (اقل من 15سنة)، وسن العمل (15-64 سنة)، وخارج سن العمل (65 سنة فما فوق)، وتبعا " لذلك زخرت أدبيات السكان بالعديد من الصياغات التي تتعاطى مع تلك النسب، أهمها ما يتعلق بمفهوم النافذة السكانية، أو الهبة الديموغرافية، وتعني المزيد من ارتفاع نسب السكان في سن العمل (15- 64)، والذي يعد منحة مؤقتة تستمر لفترة تتراوح مابين 30-40 عاما"، وما يترتب على هذا التغيير في هيكلية السكان من خلق فرص مواتية للنمو الاقتصادي في الأجل القريب والمتوسط باعتماد سياسات موائمة لهذا الحدث الهام.وطبقا" لتعريفات المنظمات الأممية، فان الدخول في دائرة الهبة الديموغرافية يوجب تحقق شرطين الأول؛ أن تقل نسبة السكان دون 15 عاما" عن 30% من إجمالي السكان، والثاني ؛ أن لا تزيد نسبة المسننين بعمر 65 عاما" فأكثر على 15% من إجمالي السكان. ووفقا" لذلك فقد دشن العراق – حسب إعلان الأمم المتحدة – مرحلة الهبة الديموغرافية منذ عام 2010.ويتيح اغتنام فرصة الهبة الديموغرافية، تحسين نوعية حياة المواطنين، بزيادة معدلات التشغيل وخفض معدلات البطالة، والتمتع بمستويات عالية نسبيا" من التنمية، وبالتالي تحسين المستوى المعيشي للمواطنين، وبضمنة منظومات الصحة والتعليم والإسكان. أما في حالة تفويت فرصة الاستفادة من الهبة الديموغرافية، فان ذلك يؤدي إلى ارتفاع نسب العاطلين عن العمل، وارتفاع معدلات الفقر لأجيال قادمة، وتدهور الخصائص السكانية من صحة وتعليم، ونمو مؤشرات اقتصادية واجتماعية سلبية، إضافة إلى تأثيرات بيئية سلبية. وكثيرا" ما تناولت أدبيات النمو والتنمية ذات العلاقة بدول جنوب شرق آسيا مسألة الاستفادة القصوى من هباتها الديموغرافية، بعدما راهنت على العنصر البشري كأداة للتغيير، فوظفت نظماً تعليمية ابتكارية، وسنت تشريعات راعية، وأسست لبنى تحتية ساهمت بإطلاق العنان لمواردها البشرية. من هنا فانه من دواعي النهوض بالاقتصاد العراقي، التأسيس لثقافة سكانية واسعة، لاسيما بعد مرور أكثر من (13) عاماً على آخر تعداد سكاني عام، فانجاز التعداد بمؤشراته الكمية والنوعية يعد الخطوة الأساسية الأولى نحو استثمار الهبة الديموغرافية اقتصاديا" واجتماعيا" وعلميا"، إضافة للمدلولات الحضارية للتعداد، وبضمنها الانفتاح الفاعل باتجاه الأدبيات والتقارير العالمية الراصدة لكل تحوّل مجتمعي يمر به البلد. وسوف تتيح الثقافة السكانية تعاملا" رشيدا" وعقلانيا" مع ما نملك من مقومات، فجزء كبير من استشراء أنواع الفساد والهدر والتبذير تنسب إلى عشوائية الإحصاءات المؤدية إلى تخطيط غير علمي لبرامج النمو الاقتصادي والتنمية البشرية.وتماشيا" مع دخول العراق لهذه المرحلة العمرية الفاعلة ينبغي تأسيس مركز متقدم للأبحاث السكانية، ضمن تشكيلات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، لضمان التعاطي العلمي مع المتغيرات الديموغرافية، ونتائجها على مجمل الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية داخل المجتمع العراقي، وان يمنح هذا المركز شهادات أكاديمية في التخصصات السكانية لتأمين الكوادر العلمية المتخصصة.ومن اهتمامات هذه المرحلة الحرجة سكانيا"، الوقوف بعلمية وموضوعية لإعادة النظر بتخصيصات الموازنة الاتحادية، بهدف تحقيق المزيد من الدعم لشريحة الهبة الديموغرافية (15-64) عاما، كأن يصار إلى تأسيس المزيد من البنى التحتية الداعمة للإبداع الذهني والجسماني،مثل زيادة عدد المكتبات العامة والملاعب الرياضية والنوادي الأدبية والعلمية، والاهتمام بالحدائق العامة، والمسطحات المائية الاصطناعية، وأنشطة السفر السياحي والتاريخي والعلمي، فجميع تلك الإسهامات سوف تؤمن المزيد من الانصهار المجتمعي والمنافسات الايجابية، وتوفير فرص عمل نوعية.ولا يقتصر التخطيط السكاني هنا على الأهداف الكمية فحسب، وإنما التركيز على أهداف نوعية انتقائية قادرة على مواكبة مشاكل العصر وإيقاعاته السريعة، فأجيال الهبة الديموغرافية بحاجة إلى تجاوز أشكال الأمية الأبجدية والمعرفية وتحديدا" شريحتي الإناث ومستوطني الأرياف والمناطق النائية، ويقع على عاتق الدولة محاربة الأمية الأبجدية في حين تتولى هيئات ومنظمات المجتمع المدني التعاطي مع أشكال المعرفة الجديدة في ظل إشاعة منظومات اتصال مرئية وسمعية ومقروءة فائقة التطوّر.وفي ظل هذه المرحلة يمكن محاربة أنواع البطالة من خلال تنشيط قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات، بادوار جديدة للقطاعين العام والخاص بما يملكان من إمكانات مالية متميزة، لاسيما بعد أن أصب
الهبة الديموغرافية ومزايا الفرص النادرة
نشر في: 27 يوليو, 2011: 07:38 م