رياض النعمانيبعض الخلائق التي غادرت أبدانها متوجهة للنور في دورانه ، ومراحل أطواره العليا المتنوعة والتي تنتهي بمرحلة النور المهيمن كما يسميها (الإشراقيون) تكون في توجهها هذا قد قامت بعمليات اختراق طويلة ومريرة لطبقات وبوابات وحجب كثيرة للكون حتى صارت كيانات بلورية تتبادل الشفوف وتحيا بها بشكل دائم في وجود هي بعض من دورته ومعناه .
هذه الكائنات الكرستالية اللدنة تسعى وبلطائف وطراوة وشفوف أرواحها المبدعة الى خلق صياغات أخرى لطبيعة الحياة... تُشهر الشعاع والنقاوة أدوات فاعلة في هذا السعي وهذا الخلق الذي يريد الوصول الى عالم الجمال والعدل والسلام والفرح كي يكون الكائن كائناً بحق أوجده النور والعذوبة والعدالة والحق كي يصبح لائقاً بسبب وجوده الأصلي على الأرض .. فالإنسان وُجد كي يعيش الحب والمسرة والبهاء والكرامة ـ لهذا فأن يسوع وبوذا ـ هما من بين أقرب الماهيات الكونية الى هذا المفهوم ـ ولأن هذا الإنسان نوراني يحيا في النور الذي كان سبب وجوده الأول فأنه يبصر بكلية جسده الشفاف دونما إهمال مسامة واحدة من المشاركة في هذا الاستبصار ، وهذه الرؤية التي تكشف رحاب وتفاصيل الكون بحركة عناصره وأفلاكه المتنوعة ، وهذا يمنحه قدرات كبيرة على إدراك ومعرفة ذاته التي يراها كجزء حيوي من دورة الوجود المشع والتي يريد تحقيق تفتحها وجمالها وتكاملها على أرض لا تحكمها ظلامية الخرافة وكهوف الغبار والردة والانتماء الكلي للماضي ( أرثاً ومقولات ) بل تنوّر وروحانية ولطف وتنوع وحركة تنفتح على المعنى الجديد للحياة الخالية من الأوهام والخزعبلات ، لأن العيش الحقيقي مع ظاهرة النور التي تحرك ظاهرات السماوات الشاملة تُبدع حياةًً على الأرض لا تقلُّ عمقاً وغزارة وتشكيلاً وعذوبة عميقة .هذه الخلائق التي غادرت أبدانها غادرت الوهم والإرث الميت من جسد الماضي وانهمكت في استجلاء معنى الحياة الأعمق الخلاق الجديد ، الجميل العادل الذي تبدعه رؤيا النور .. رؤيا الإشراق الساعية الى إيجاد عالم نبيل شفاف ، تُسّيره وتحكمه خلقية عالية تريد تكريس الحب كقيمة عليا تُضيء الواقع بفرح وغناء الإنسان الصاعد الى فضاء يتجدد مع ضوء كل يوم جديد ، .. من هنا فأن هذه الكائنات التي تعيش في أفق النور والتي تنطوي في داخلها على روح وعقل شاملين ليست بالضرورة متدينة تنتمي الى دين محدد لأن تجربة هؤلاء في جوهرها هي التجربة الصوفية التي تتخطى حدود المذاهب والأفكار المحدودة الى أفق تتجاور فيه وتتكامل كل الأديان والأفكار والمعتقدات . هكذا يكون أصحاب هذه التجربة في حركة تجدد دائمة فهم ـ وقد تخلصوا من قناعات سائدة ظلت تقتل الحياة وتؤجلها الى ما بعد الموت ـ في انشغال دائم وجهد لا يتوقف لاكتشاف الحقيقة الشفافة المضيئة وجعلها طاقة عظيمة لتحقيق وتكريس نوع من النظام غايته النهائية هي سعادة وحرية الإنسان الذي أوجده النور ليكون نورا وسلاما وعدلا يرفع راية وأسم الإنسان على هذه الأرض التي تصبح سماءً تقدس الانفتاح والتطور وحرية الاختيار واحترام الآخر وحقه في المعتقد والانتماء دونما إكراهات ، واملاءات لا تنفي عملياً معنى الإنسان فقط بل ومعنى الحياة الكلي الذي ينبغي أن يحترم تطلع الإنسان الى الحب والمسرة وإمكانات الحلم وحرية الجسد وطاقات الفرد وجماليات الإبداع وشؤون الفرد الخاصة التي يُحرّم التعرض إليها تحت أي مبرر .هكذا تنهض مرة واحدة قوى الحياة الكلية الزاخرة والشاملة في وحدة اندفاع عالية تُفجّر جميع ممكنات الكون الكامنة في الإنسان في حركة تبعث كل شيء في هذه المسيرة المتقدمة الى الأمام مشحونة بجميع طاقات الوجود المنشود .. هذا الوجود الذي هو سمفونية سماوية تنطلق مشرقة بأنوارها الأبدية على العالم الذي لا يقدس شيئاً مثلما يقدّس حرية وقيمة الكائن والطبيعة (شجر وأنهار وصخر وحيوان ... ) في هذه السمفونية ستنهض البشرية جمعاء وبصوت واحد ينشد مجد الإنسان وفرحه وعظمة أغنيته التي قال عنها هرمان هسه في ـ تجوال ـ ( مقدسة هي الصلاة ومطهرة من الخطايا كأنها الأغنية ) .
النظام الإشراقي.. المسؤول الإشراقي
نشر في: 9 أغسطس, 2011: 06:33 م