TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > عين: وسط بغداد

عين: وسط بغداد

نشر في: 20 أغسطس, 2011: 09:10 م

 عبد الخالق كيطانهنالك بعض المتع، الصغيرة جداً، في بغداد. متع قد تتحول إلى نقمة هائلة إذا ما قصدتها في غير وقتها. وهي متع موروثة بالنسبة لك، وليست وليدة اليوم. ويصح القول إنها ليست متعا بالمعنى المتعارف عليه، هي، بعبارة موجزة: ما تقترحه أنت بوصفه متعة!
وهذه السطور ليست للسفسطة الفارغة، فركوب سيارات "الفولغا" بين الباب المعظم والباب الشرقي، أو ساحة النصر، متعة قديمة بالنسبة لي تعود إلى أيام كنت طالباً في كلية الفنون الجميلة. شاءت المصادفات أن يكون أحد أقرب أصدقائي صاحب سيارة "فولغا"، وبالتالي كنت أذهب وإياه إلى مقرّ انطلاق السيارات في الباب المعظم. كان ضياء أحمد متبرماً، وبالرغم من حاجته وحاجة أهله إلى النقود مع بداية سنوات الحصار القاسية، إلا إنه كان يوفر لي وله بعض المال. على أية حال، كان خط سيارات "الفولغا" أيامها يبدأ من الباب المعظم ويمشي في شارع الجمهورية وصولاً إلى ساحة النصر. وهذه الرحلة كانت متعة في الثمانينيات، ثم صارت قفراً في سنوات الحصار وصارت اليوم لعنة ما بعدها لعنة بسبب الزحام.سواق السيارات اختاروا طريقاً جديداً للهروب من الزحامات، وذلك عبر شارع الكفاح. وهذا الطريق معناه المرور على وسط بغداد بكل ما تحمله من تاريخ وذكريات وآثار وشخصيات وقصص. وبالرغم من ذلك فهم وركابهم لم يسلموا من الزحامات الهائلة التي تسببها منطقة الشورجة: سوق السجائر، حيث كانت في السابق تحتضن أهم "بورصة" لتجارة العملة في بغداد. توفر لي هذه "المتعة: أضعها بين قوسين الآن، لأن القارئ قد عرف المعنى!" فرصة لمواجهة حارات وسط بغداد. وأستطيع القول، دون أن أفرض ما أقول على غيري، إن مراكز المدن عادة ما تسحرني. لم أذهب لمدينة إلا وكان مركزها ما يشدني دون سواه. وفي المدن التي زرتها لا أجمل من مراكز المدن. الدولة والناس والمؤسسات هناك يولون أهمية استثنائية لمراكز مدنهم. فهي نظيفة على الدوام، تكثر فيها البنايات التراثية المعتنى بها، وتشهد أزقتها حركة مجتمعية سلسلة. أما الحال في وسط بغداد فمثير للأسى واليأس والغثيان!البنايات المحطمة، وتلك المهجورة، من أزمان الحروب بقيت شاهداً على عجزنا عن اللحاق بزمن الإعمار والبناء. النفايات تملأ الشوارع والأزقة، البيوت الآيلة للسقوط أكثر من أن تعد، المراكز الدينية، الجوامع والحسينيات والتكيات في حال مزر، أسواق اعتباطية تنشأ هنا وهناك، أصحاب بسطيات لا يكتفون بسرقة الأرصفة بل يزحفون إلى الشوارع، وينافسهم متعهدون يستولون دون أن نعرف كيف على نصف شارع الكفاح. الأطفال يركضون في عرض الشارع هرباً من أزقتهم الضيقة والنساء بين عابرين فظين وتجار صغار يسمعونهن كلاماً غير محتشم.. من الذي ينقذ وسط بغداد من خرابه؟لم أقصد "الفولغات" مرة في شارع الكفاح إلا وكان اليأس هاجسي. فمسألة إعادة الحياة إلى وسط بغداد أكثر من ملحة، وأنت إذا ما وصلت إلى المنطقة المحصورة بين ساحة الخلاني وساحة عبد القادر الكيلاني، وصادفت منازل التجاوز على الجهة اليمنى في طريقك إلى السنك.. لن يحضر في ذهنك غير مثلث مشؤوم: المرض، الرذيلة والجريمة... بالطبع هو افتراض سيئ لا يجد مثلي غير التفكر فيه وهو يرى كل ذاك الخراب في مناطق وسط بغداد...وسط بغداد بحاجة إلى حملة وطنية كبيرة تعيده إلى الواجهة، وتجعل الرحلة بـ"الفولغات" مسرة بالفعل، أما الحديث عن أنفاق وقطارات معلقة وما إليه في ظل واقع مديني متخلف فهو أقرب إلى النكتة... مع الاحترام للأحلام!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram