اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > كائنات الطين: كيف يرى الجنون نفسه

كائنات الطين: كيف يرى الجنون نفسه

نشر في: 21 أغسطس, 2011: 05:44 م

عماد حسنألغى موت علي تراتبية الأسئلة. بعثـر تقليديتها ليعيدها إليّ صامتة متقافزة، يصعب إحكامها.كان زاء المنطقة الوسطى بين البيت والخارج. البيت الذي يحتله أخوته المجانين الأربعة والخارج الأكثـر استعصاء على الفهم من الجنون نفسه. شيء ما أفدح من الحزن عبر إليَّ من ارتباك زاء وحيرته المسكينة. أو ربما عبر إليَّ من الحدث نفسه، من موت علي. موت العقلاء يتوافق مع عقلانية الحياة والموت. موت المجنون يقود الى منطقة باردة،..فارغة.
من قصة كائنات الطينrnيعي حسن ناصر، وربما زاء أيضاً، مقولة فوكو في الفصل المسمى(سفينة الحمقى): إن القضاء المبرم على الموت لم يعد شيئاً ذا بال، فقد كان يشكل كل شيء في السابق، فالحياة ذاتها لم تكن سوى تفاهات وكلام عبثي وصخب وصولجان مجانين. إن الرأس فارغة وستتحول الى جمجمة. إن الجنون هو الحضور المسبق للموت.وهذا الوعي لا يغير من كونهما نظرا إلى الجنون على أنه عَرَض يمكن تلافيه بذهاب أحدهما إلى الحرب وبجلوس الآخر لرواية هذا الذهاب العبثي.لم يتخلص زاء من جنونه، الذي هو أيضاً قدر من  إله لا يقل جنوناً، بذهابه إلى حرب تتيح للجنون أن يتجلى بفصاحته المميتة. لم يتخلص من أوهامه بنفي حقيقة الجنون عن أوهام الآخرين الذين يرون في عدم الجنون الحالة الصحية للعالم. الراوي الذي، بدوره، أخذ على عاتقه مهمة إقناعنا بعودة زاء من جنونه الشاعري لم يزدنا إلا تبلبلاً بشكه الذي طال الكثير من قناعاتنا الراسخة. يقول عن زاء: يعرف كيف يستعمل السلاح ويعرف معنى العدو والمجد والوطن وكل أشباح العقل الأخرى.وإذا ما استعرنا، على سبيل الافتراض، عقل زاء العائد من الجنون فكيف سنرى أنفسنا والجنون والعالم؟غير بعيد عن هنا وفي غمرة أحداث مربكة تمتد إليها يد الجنون الواهيةحيث ملا علي عبداني يقرر وهو الرجل التقي، بأن يجمع عظام أبيه وجنونه الشخصي في صرة شاء الراوي أن يسميها (صرة عبداني) ويتوجه بها إلى النجف قاطعا (الحدود الملتهبة) في خضم الحرب العراقية الإيرانية. بعد أن قطع عهداً لأبيه بأن يدفن رفاته في وادي السلام. وحين يشعر ملا علي بتدهور صحته واقترابه الوشيك من الموت يقرر رحلته المجنونة تلك.ليس من السهولة فك شاعرية الرموز تلك من أخرى غلفت،وربما بنية مبيتة، الجنون والموت الذي جاء على هذه الشاكلة. القصتان يخيم عليهما هاجس واحد في النهاية رغم اختلافهما الظاهر، هو كيف باستطاعتنا الحياة تحت أعباء عقل تستبعده الحياة دائماً؟ السؤال يبدو بسيطاً ومخيفاً. كالشعور الذي يخالجنا حين نقرأ تلك المقدمة التي تشبه إلى حد ما أحد بيانات الحرب التي تدور زمن القصة: بأمِّ عيني شاهدت ملا علي عبداني يبكي جالساً في ظل نخلة في مخفر التنومة بالبصرة عام 1984. كانت الظهيرة تستعر والحرب على الجبهات تبتكر تجليات أرضية للجحيم، لكن دموع عبداني لم تكن على شيء من ذلك كله، بل على الصرة السوداء أمامه.(أي مخرفين نقاتل) هذا ماجاء في التقرير الذي رفعه أحد عقلاء الحرب برتبة عقيد إلى قيادته العليا. وهو يفترض أن في اختلاف العبداني التائه وربما لاعقلانيته سبباً قاطعاً لتضمين عبارته تلك، فلم يراود العقل العسكري للعقيد بأن مايمارسه، واعداؤه، لم يكن يعني أي شيء.. للعبداني المأخوذ بحب وذكريات وعظام أبيه.ولا مناص من العودة إلى فوكو في كتابه تاريخ الجنون لفهم عبارة العقيد التي كانت غير معنية ببلاغتها ولا بشعرية اللاعقل في تصرف عبداني. يكتب فوكو: إن المجنون لا يكشف عن نفسه من خلال كينونته، إلا أنه إذا كان ثابت الوجود، فلأنه مختلف.والاختلاف جنون يدفع بمتأمله إلى إلغاء النتائج التي يتوصل إليها كل مرة. اختلاف عبداني يجد له ما يبرره في جنون زاء وبشكل أقل جنون علي، أقدم الأخوة في الجنون وأسبقهم إليه. إنهم وببساطة منذورون لرحلة شاقة قد تصل بهم إلى اللاشيء لكنها، على كل حال، حلمهم في الهروب من مصير يجمعهم بالفانين الآخرين. إن في اختلافهم الذي يشكل، دون علمهم ربما ، الوجه الآخر لعقلانيتنا المفرطة، عقلانيتنا التي يشهد عليها ذهابنا إلى الحرب كقطيع منّوم واختلافهم الذي يشهد عليه ذهابهم إلى الحرب للهروب إلى مصير لم نستطع نحن الإفلات منه. إن ما يجعل الحياة مكتنرة على هذه الشاكلة هو الموت بالتأكيد، موتنا الذي يشبه ضرباً من الجنون أيضاً. في هذه المسيرة التي تسمى الحياة حيث يكون لنا قدر واحد في نهاية الأمر أن نذهب لحروب غيرنا لنموت فيها بعد أن شهدنا تلك الصيرورة المؤلمة، الصيرورة التي قال عنها سيوران: إنها احتضار بلا خاتمة. كان علي أكبر الأخوة. أصابه، على حين غرة، مرض غريب لكنه بالتأكيد ليس أكثر غرابة من الرواية التي تقول، بأن علياً وفي من أحد الأيام الطويلة من حرب الشمال تعثر بجثة صاحبه فتدحرج عقله في واد عميق واختفى بعد ذلك الى الأبد، هكذا وبلا أسباب مفهومة أو نتائج مقنعة يجد علي نفسه (رهيناً لمحبسين) الجنون والبيت.في واحدة من أجمل القصص التي كتبت في القرن العشرين، هي وبلا شك قصة "الخالد" لبروخيس. يقول ماركوس فلامينيوس روفوس الشاهد الوحيد والأخير على ذلك الهذيان الكوني المتواصل: ليس هناك ماهو استثنائي بصدد كونك خالداً، فالكائنات كلها عدا البشر خالدة لأنها لا تعي ماهو الموت. إن الستارة التي اسدلها الراوي على حياة علي ليست هي، كما تتوهم عقولنا المنطقية،النهاية التي رافقت (إخفاء الجثة) كما لا يدور بخلد من غادر للتو ظلم

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram