أوس عزالدين عباس كان الإنسان طوال تاريخه كائنا مستقبليا , بمعنى إنه كان يحاول دائما التعرف على نوع الغد الذي سوف يواجهه , وذلك في حدود علمه وتجربته والظروف البيئية التي تحيط به , والوسائل المتاحة له , والتي تتفق مع المستوى الفكري الذي أمكن له الوصول إليه , وعلى الرغم من إن الاعتقاد في قدرة العلم على السيطرة على كل شيء والإيمان بفكرة التقدم المستمر كوظيفة للتقدم العلمي , فإنها كانت دافعا من بعض الوجوه إلى التفكير في المستقبل على ما يظهر , وعلى سبيل المثال , في كتاب العام (( 2440 )) لـ (( سبستيان مرسييه )) ,
والذي نشر لأول مرة في عام (( 1970 )) , فإن الاهتمام العلمي الدقيق بدراسة المستقبل لم يبدأ بعد إلا بعد الحرب العالمية الثانية , وبلغ ذلك الاهتمام ذروته وخاصة في الجامعات ابتداء من الستينات , وربما كان أول كتاب نظري وذا شأن رفيع ولايزال ينظر إليه بكثير من التقدير هو الكتاب الذي أصدره المفكر الفرنسي (( برناردو جوفينل )) عن (( فن التخمين )) , وهو عنوان كاشف يعني في آخر الأمر إنه لاتوجد في أي وقت محدد حقائق مستقبلية يمكن رصدها بطريقة موضوعية , وإن مايطلق عليه اسم (( علم المستقبل )) هو (( علم )) غير دقيق , لأنه يعتمد على التنبؤ الذي يدخله كثير من التأمل والتخمين واعتبارات أخرى ذاتية كثيرة تتنافى مع موضوع العلم .rnولقد تمخض انتشار كتابات الخيال العلمي عن اهتمام من أصبحوا يعرفون مايعرفون باسم (( المفكرين المستقبليين )) بالبحث عن الحقائق والتحديات المستقبلية التي سوف يواجهها الإنسان في العقود والقرون المقبلة , كما عبر عن ذلك بوضوح كتاب (( هاريسون براون )) في كتابه (( مستقبل الإنسان المتغير )) الصادر في عام (( 1954 )) , والذي يعتبر من الأعمال الرائدة والممهدة لقيام الدراسات المستقبلية وعلى أسس علمية متينة بحسب تعبيره , كما كان مقدمة لظهور كتابات مستقبلية كثيرة لعدد كبير من الكتاب المستقبليين من أمثال (( ألفين توفلر )) و (( مارشال ماكلوان )) وغيرهما من الكتاب والمفكرين والعلماء الذين يؤمنون بأن (( المستقبل القادم هو مستقبل رقمي )) .وقد قامت الدراسات الأكاديمية المستقبلية , وفي أمريكا بالذات , منذ الستينات وعلى أيدي مجموعة من المفكرين والباحثين المستقبليين الجادين , من أمثال (( هرمان كاهن )) و (( أولاف هلمر )) و (( دنيس جابور )) و (( وندل بل )) , وكذلك شهدت الستينيات وما بعدها نشأة عدد كبير من المؤسسات العلمية التي تهتم بتلك الدراسات مثل (( جمعية المستقبليات العالمية )) , والتي تأسست في عام (( 1967 )) و (( الاتحاد العالمي للدراسات المستقبلية )) , الذي تأسس في عام (( 1973 )) في باريس , ثم ظهرت المجلة الرائدة المهمة , والتي تحتل الآن مكانة عالية بين العلماء والدارسين المستقبليين , وهي مجلة (( المستقبل )) التي صدرت لأول مرة في عام (( 1980 )) , وهكذا توالت الدوريات الفصلية والشهرية , والتي أسهمت في ظهور (( ثقافة مستقبلية )) على نطاق واسع في كثير من أنحاء العالم المتقدم , وبذلك لم يعد الاهتمام مقصورا على عدد محدود من العلماء والمفكرين , ووجدت طريقها إلى الجامعات , كما أصبحت الكتابات ترتكز على أسس علمية ومنهجية .وقد طرأت تغيرات جذرية عديدة على النظرة إلى الدراسات المستقبلية , وهي تغيرات شملت المجال والمناهج وأساليب البحث ومضامين هذه الدراسات والأهداف التي ترمي إليها , وتظهر أهم هذه التطورات في مدى اتساع وتنوع المجالات , حيث اتسمت هذه الدراسات بطابع الكلية والشمول , حتى وإن كانت تتناول موضوعا واحدا جزئيا يبدو لأول نظرة إن مجاله ضيق ومحدود ومنفصل عن غيره من الموضوعات وإن له استقلالا ذاتيا , وقد يكون من الصعب تحديد مجال معين واضح المعالم لهذه الدراسات , مما يعني إنها ليست متخصصة في مجال واحد له حدوده وكيانه , أو إنها تركز على دراسة منظومة معينة من الظواهر والوقائع والموضوعات أو الاتجاهات , وهذه النقطة أثارت الكثير من الشكوك والجدل حول جدوى الاهتمام بها على المستوى الأكاديمي , ولكنها لم تفلح في القضاء عليها , بل ظهرت كتابات أكاديمية عديدة تدافع عنها وتبرر أسباب وجدوى الاشتغال بها والعمل على تطويرها .ومن أهم الأعمال التي صدرت بهذا الشأن كتاب للأستاذة الإيطالية (( إليونورا باربييري ماسيني )) بعنوان (( الدراسات المستقبلية ... لماذا ؟ )) , الذي صدر في عام (( 1993 )) , والتي تشغل منصب أستاذ القانون وعلم الاجتماع في جامعة (( روما )) , كما إنها رئيسة لجنة (( مشروع مستقبليات الثقافات )) , الذي تشرف عليه اليونسكو , ويطلق الكثيرون في أوروبا بالتحديد عليها لقب (( أم الدراسات المستقبلية )) , نظرا لأنها أمضت كل حياتها في العمل على تطوير الدراسات المستقبلية والدعوة إلى نشرها بين أوساط الشباب والدارسين في الجامعات بوجه خاص , وتنادي بضرورة النظر إلى المستقبل في ضوء التطورات الاقتصادية التي يشهدها العالم , كما تؤمن بأن من شأن التواصل الثقافي تغيير العالم نحو مستقبل أفضل , بالرغم من كل العوائق التي تعطل هذا التوجه , وأهمها شعارات العولمة التي تخفي وراءها دعاوي الهيمنة الأمريكية , إلى جانب التراخي في استخدام الموارد البشرية , والاعتماد الكلي على التكنولوجيا والإنجازات العلمية الحديثة , ويناقش هذا الكتاب أهمية الدراسات المستقبلية وأسباب الاهتمام بها , وينطلق من التسليم بأن الدراسات المستقبلية لم تأخذ حقها , بالرغم من كل ماكتب عنها , وربما بسبب التغيرات الس
المسـتقـبـليـــــون.. والدراســـــات المســتقبـليـــة
نشر في: 5 سبتمبر, 2011: 05:59 م