شاكر لعيبي(3)مشكلات الشعر العراقي كثيرة في العقود الثلاثة الأخيرة، رغم أن سهواً يمنع الكثير من رؤيتها ويكتفي بتمجيد الشبهات. هزائم أخلاقية ونقدية وليست نصيّة وجمالية بالضرورة، وإنْ كان للجماليّ نصيبه من الظاهرة لدى الأجيال اللاحقة التي استسهلت الكتابة الشعرية، بشهادة الأغلبية.
إن تدهور المؤسسة الرسمية المترافِق مع تدهورٍ حقيقي في الضمير الثقافي العام قاد إلى استبعاد الشعر العراقي إبّان الثلاثين سنة الماضية، بطريقة ناعمة، من قطبٍ لنشاطٍ إبداعيٍّ حميمٍ في البلد إلى فوضى كتابيةٍ عارمة، ومن التقدير اللازم لشعرائه عند العرب، إلى تهميش نسبيّ مقصودٍ.كيف يمكن أن يُطرد الشعراء من "جنة" العراق إلى المنافي، أو يُدفعوا للتعاطي مع الطغاة في داخله، ونرغب بعدئذ بأن يقيم لهم الآخرون اعتباراً يليق بشاعريتهم المزعومة؟. لم يستو الأمر للحظةٍ واحدة، وترافق مع فسادٍ ثقافيّ عربيّ شمل حتى الشعراء العاملين في الصحافة العربية المشهورة في لبنان ولندن وغيرهما، وقاد في نهاية المطاف إلى تزييفٍ لقيمة الشعراء العراقيين مقارنةً بمجايليهم الذين صعدوا صعوداً صاروخياً وكُتبتْ عنهم الدراسات والأطاريح الجامعية وكُرِّستْ لهم الملفات النقدية الطوال.لم يحظ كبار شعراء البلد بالتقدير الذي يستحقونه نقدياً. ولعل من الدلائل في هذا المقام أن لا يكتب سوى ناقد مغربيّ دراسة مطوَّلة بمجلدين عن حسب الشيخ جعفر وليس ناقداً عراقياً. هزيمة تراجيدية في الحقيقة، هزيمة مشرِّفة والحالة هذه. لم يحظَ الشعراء الأصغر سناً من الشيخ جعفر، المقيمين خارج البلد كذلك، بالخمسين من أعمارهم اليوم، بما حظي مَنْ هو في سنهم من الشعراء العرب وأشباههم، من احتفاء نقديّ وتكريس وإجماع وذهاب إلى كبريات المحافل الشعرية العربية والأوربية. ليس شاعرا عراقياً من كرَّستْ له مجلة (نقد) عدداً خاصاً إنما شاعر أردني، وليس شاعراً عراقياً من تقوم له وتقعد الصحافة اللبنانية والمحافل الثقافية إنما هو شاعر عُماني. كلاهما شاعر محترَم. أما مَنْ يستطيع الحضور في المحافل والندوات من الشعراء العراقيين فإنما بجهده الخاص ومهارته الفردية التي لا قيمة لها بعيداً عن أنساقِ عملِ الثقافة المُجْمَع عليها. تتحمّل الثقافة العراقية شطراً من المسؤولية، ويتحمّل الشطر الآخر الشعراء العرب الذين أرادوا الجلوس بجسارة على مقاعد الشعراء العراقيين الشاغرة. لا قيمة لشعراء يتهافتون اليوم على المنابر الثقافية هنا وهناك، ويتملقونها بالأثمان كلها بعد أن كانوا موطن حجيجٍ للشعر العربي. علينا الاعتراف بأن هزيمتهم قاسية. كما لا قيمة لشعراء بارعين من دون الروافع النقدية العربية مهما كانت القيمة الجمالية رفيعة لنصوصهم. هزيمتهم صارخة هم أيضاً وإنْ كانت هزيمة شريفة وتراجيدية، آخذين شروطهم بنظر الاعتبار.لكلٍّ من الشعراء العراقيين نصيبه من الهزيمة التي يعلنها اليوم، بطريقته الخاصة، تدليسٌ نقديّ محليّ لا بد أن يكون خارجاً من إرث الثلاثين سنة الماضية، وليس من العدم كما ليس وليد اللحظة. ثمة إجماع على أن الكثير من النقد الراهن لا يقرأ الشعرَ قدر ما يعيد الصياغات الإنشائية الجاهزة حسب الطلب بشأنه. لم أتعجب من (ناقد) تحدث عن شعري في برنامج "قرطاس" التلفزيوني انطلاقاً من معطيات الشبكة العنكبوتية وحدها، مرتكباً الهفوات. تحدث بثقة ما بعدها من ثقة دون أن يكون ملمّاً حتى بالطفيف القليل بما يتحدث عنه. هزيمتي الرمزية كانت جلية أمام ناظري هذه المرة، وأعترف علناً بها.إننا أمام وضع لا يُحسد الشعر العراقي الراهن عليه. لن يُرضي الغرورَ توصيفُ الحالة بالمفردات التي نستخدمها هنا. سيقال كالعادة: نعم، لكن. وستُقدَّم تبريرات تمنح الثانويّ دور الجوهريّ، وسيقع رمي اللوم على الشبح ذي الوجوه والأسماء المتنوعة.علينا الاعتراف بأن هذه الهزيمة المأساوية المجيدة لا يستحقها شعر العراق، وبإمكانه تجاوزها بعد حين. وإنها، هذه الهزيمة، رديف لخرْقٍ كبيرٍ في المجتمع العراقي نفسه.
تلويحة المدى: هزيمة الشعر العراقي
![](/wp-content/uploads/2024/01/bgdefualt.jpg)
نشر في: 9 سبتمبر, 2011: 06:00 م