د. مهدي صالح دوّاي سادت في ستينيات القرن الماضي العديد من المسميات والتوصيفات ذات العلاقة بأدبيات التنمية الاقتصادية في محاولة لفك الغاز التخلّف ، والانطلاق بالدول المستقلة حديثا" نحو التطوّر والنمو ، ومن بينها ما عرف ( بأزمة التاءات الثلاث ) في إشارة واضحة إلى حالات ( التخلف والتجزئة والتبعية ) التي عانت منها تلك الدول ، وبعد مرور نصف قرن على تلك المقولة ، نجد من الضروري أن يتعاطى الاقتصاد العراقي مع تلك المقولة برؤية اقتصادية معاصرة ، وهو يمر بمرحلته الانتقالية منذ ثماني سنوات .
فالملاحظ أن ريعية الاقتصاد العراقي باعتماده شبه الكامل على الصادرات النفطية - وليس المنتجات النفطية – قد أوسمته بصفة الاقتصاد أحادي الجانب ، لاسيما مع وجود موازنات فلكية ثلثيها يتجه نحو إنفاقات تشغيلية وليست استثمارية ، وبالنتيجة بقاء قطاعاته الإنتاجية متخلفة بمؤشراتها الاقتصادية ، فليس من المستغرب أن نجد نسباً عالية جدا" من البطالة في بلد يتساوى بمساحته مع ألمانيا ذات الثمانين مليون نسمة ، ويزيد ضعفا" على مساحة اليابان ذات المئة وثلاثين مليون نسمة .وتظهر سمة التجزئة ليس بمنظورها الجيوسياسي ، وإنما بغياب التكاملات الأفقية والعمودية في ما بين قطاعاته الاقتصادية ، وأقاليمه الجغرافية ، فقد حتم النمو الأحادي لقطاع الصناعة الاستخراجية أن يمارس أدوارا" انعزالية داخل البلد الواحد ، في حين عطلّت النزعة الاستهلاكية المعتمدة على الاستيرادات الكثير من المشاريع المحلية غير المحمية ، وبالتالي ضعفت روابط الاندماج مابين مناطق العراق على الرغم من امتلاكها العديد من المزايا المطلقة والنسبية القادرة على تأسيس مشاريع صناعية وزراعية وخدمية رائدة . يضاف إلى ذلك، أن المصادر الريعية للدخل قد تم تدويرها نحو الخارج لتلبية سلة الحاجات اليومية من السلع الاستهلاكية والاستثمارية وباليات غير مسبوقة من الاستيراد غير المنضبط ، فكان لهذه السلوكيات آثارها السلبية في وجود العديد من الانكشافات والفجوات الغذائية والتجارية والتقنية ، مما نتج عنه إشكالا" من التبعية نحو العالم الخارجي ، وما تشكله تلك التبعيات من أعباء اقتصادية ونفسية وسياسية ، لعل أهمها ضعف الثقة بالاقتصاد العراقي.أن البحث المعاصر في مضامين أزمة التاءات الثلاث قد تغير عما سبق من تحليلات ما بعد الحرب العالمية الثانية ، فمضامين التطور التي شهدتها الدول النامية قد أسست لمعاني تناقض تلك التاءات ، إذ أن هنالك ( تطوّر وتكامل واستقلالية في إرادة التغيير )، وهذا ما ننشده في الاقتصاد العراقي من خلال ادوار وطنية وإقليمية ودولية فاعلة . فمهمة تجاوز تلك التاءات ليست مستحيلة على الرغم من ظهور أشكال جديدة من التبعية في أدبيات النمو والتنمية ، فطيلة عقود مضت كان الاختبارات قاسية في ظل فضاءات ضيقة للفكر الاقتصادي ، أما اليوم فينبغي أن نغادر نحو إعادة بناء منظومتنا الاقتصادية بكل ما نملك من عقلانية .
فضاءات :أزمة التاءات الثلاث
![](/wp-content/uploads/2024/01/bgdefualt.jpg)
نشر في: 17 سبتمبر, 2011: 07:34 م