TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > سيرة المنفى.. الأمكنة التي فقدناها

سيرة المنفى.. الأمكنة التي فقدناها

نشر في: 25 سبتمبر, 2011: 07:44 م

شاكر الأنباريا-2كانت هناك قريتان مثل ظل بعيد، في تلك اللحظات التي عدت فيها إلى الوطن في سنة ألفين وثلاثة، إحداهما في رأسي والأخرى على أرض الواقع. تلك التي كانت في رأسي ظلت شابة لم تشخ منذ أن غادرت العراق في عام 1982 وهي ذات ملامح واضحة.
 مكانها طازج، ويمتلك تفاصيل أعرفها جيداً. أعرف الناس والأشجار والحشائش والأسماء وقصص العشق التي دارت منذ قرن، أيام ما كانت النكات والحكايات والمقالب مدار تسلية للفلاحين في ليالي القرى المظلمة.تلك قرية كانت مصنوعة من بساطة، وتسامح، وجهل، وحكايات، وبحث عن حياة أفضل، وتوق إلى ارتياد المجهول واحترام الثقافة والعلم والوجاهة. وهي على نحو ما، قرية نموذجية لقرى الفرات الغربية، بكل ما هو معروف عنها من انتماءات عشائرية وأساطير.كانت القرية تلك، واسمها الحامضية، قرية لبكورة الحياة وهي تتفتح وتتخلص من العصور المظلمة. حملتها في رأسي وأنا اخترق الجبال، وأجتاز حدودا، وأسير في شوارع باردة، وأسير بين أشجار سنط ثلجية. ورأيتها في أحلام يقظتي حين عاقرت خمرة، وعانقت نساء، وركبت قطارات.القرية التي عدت إليها وجدتها قرية أخرى، لا تشبه تلك الحامضية التي سامرتها وناجيتها خلال تجوالاتي الطويلة في بلدان العالم. لقد تغيرت الوجوه التي كنت أتذكرها طوال كل تلك السنين، وشاخت بساتين النخيل وتهدمت البيوت المعاصرة لطفولتنا. وقفت أمام أشجار أخرى ونباتات جديدة وبشر آخرين. نعم يمتلكون الأسماء ذاتها، لكنهم يختلفون عن أولئك الذين أدمنتهم في خيالي بين سرو أوروبا وعلى صقيع ثلجها. يمكن القول إنني كنت أعاقر سراباً أو شبحاً لمكان، وهذه لفتة روائية أفكر بها دائما، أي الفرق بين الموجود في الرأس وذاك المتحرك على سطح الحياة.الموجود في الرأس يتعمد بروح الفن، بطاقة الخيال غير المحدودة، وهذا ما يقربه من الخلود. الأمكنة على ما يبدو تشيخ هي الأخرى، وتتبدل، ويتغير هواؤها، وتصبح ذكرياتها في النسيج ذكريات بشر آخرين. كل تلك التبدلات، وتلك المفارقات، لم تدخل حتى اللحظة مصهر الكتابة الإبداعية، كوني كتبت قصصي ورواياتي عن تلك القرية والمدينة، بل والعراق كله الذي كان في رأسي، أي كتبت عن وهم خالص، وهو في الوقت ذاته، وهم المنفيين، والمغتربين، والمشردين، والصعاليك، ومتمرسي الهجرات بين الصحارى والبحار والبلدان. بلدان الأزمات، خاصة، يسري عليها هذا القانون الطبيعي والبشري أكثر من البلدان المستقرة. الزمن يفعل فعله على أية حال لكن النتائج تختلف، وان كانت في تفاصيل صغيرة. حين طرقت باب بيتنا، خرجت زوجة أخي التي لم أرها سابقاً، لكنها رأتني على ما يبدو في صور العائلة. كنت ألبس بنطلوناً من الجينز وكنزة صيفية، تقف ورائي زوجتي ببنطالها وقميصها المشجر وقصة شعرها الدمشقية، فنظرت زوجة أخي إلينا وأحسست بأنها كمن رأت كائنين هبطا من مجرة بعيدة. هرولت إلى داخل البيت وأخبرت أمي وأبي بعودتي، فجاءا راكضين ووقفت أتأملهما بخوف وفضول. أمي بملابسها شبه البدوية، وأبي بلحيته البيضاء الطويلة. إنهما يختلفان كثيراً عن ذينك الشخصين اللذين تركتهما صباحا قبل أكثر من عشرين سنة.لقد اختصرت تلك الثواني عقدين من الزمن، فكيف يمكن نقل هذه التفاصيل إلى ورق جامد لا يتسع للخيال؟ زوجة أخي، بعينيها الزرقاوين، ربحت خاتماً ذهبياً من أمي ثمن البشارة، كما اتفقتا على ذلك منذ خمس سنوات. خلال السنوات الثلاث التي قضيتها في العراق، بعد عودتي، ظلت لدي محاولات دؤوبة لإعادة الصلة بيني وبين العراق القديم الذي غادرته قبل حوالي خمس وعشرين سنة. كانت الفجوة كبيرة على ما يبدو، والتحولات التي عاشها البلد أثناء غيبتي هي من العمق بحيث أنها خلقت هوية أخرى للإنسان والمكان، وما يتبع ذلك من سلوكيات وأمزجة ووجهات نظر.لم يعد العراق يشكل بنية ثقافية واحدة في الوقت الحاضر، فنتيجة للأوضاع القاسية التي مرت تحول إلى جزر ثقافية، بل يمكن القول إن المنظومات الثقافية لها اليوم علاقة بالمدينة، والدين، والطائفة، والمنطقة، وهذا التحول رهيب ويستحق دراسات معمقة، ومن أسباب ذلك التحول التأثير الهائل للحروب المتعاقبة التي مزقت نسيج المجتمع التقليدي وثقافته، إضافة إلى غياب المؤسسات المعروفة، وغياب الدولة، وغياب المنظومة الموحدة، أي الآلة الأمنية والإعلامية والثقافية والاقتصادية، كل ذلك أفضى إلى تمزق في الهوية الثقافية.المواطن البسيط اليوم في الرمادي غيره في الموصل، وغيره في بغداد والبصرة والحلة والنجف. والفروقات بنيوية، وما يجري الآن يعمق من تلك الفروقات.السنوات التي عشتها بعد عودتي كانت محاولة لمعرفة ما يجري، ولمراقبة الناس وتعابيرهم وألفاظهم وطريقة ردات فعلهم تجاه الحوادث اليومية. كما عشت البؤس ذاته الذي يعيشه المواطن البسيط من قطع كهرباء في جو حرارته خمسين درجة مئوية، ومن تلوث هوائي ومائي، ومن انعدام الأمل في الخروج ليلا إذا ما تعرض الطفل أو المرأة أو الشخص عموماً إلى حادث عارض يستدعي الذهاب إلى المستشفى. عشت رعب القتل على الهوية الطائفية والحزبية والسياسية، ورعب الإرهاب، وهو يتلذذ بقتل البشر، ولا يفرق بين مثقف وفلاح، طفل وشيخ، تقدمي أو سلفي. كل ذلك جعلني أنظر بزاوية واس

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

بغداد/ المدى تنطلق فعاليات الدورة الخامسة من معرض العراق الدولي للكتاب، في الفترة (4 – 14 كانون الأول 2024)، على أرض معرض بغداد الدولي.المعرض السنوي الذي تنظمه مؤسسة (المدى) للإعلام والثقافة والفنون، تشارك فيه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram