لبيد جلال الحنفي لقد شهد العراق منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 وحتى عام 1958 عام الإطاحة بالنظام الملكي تأسيس فعاليات اقتصادية خاصة عالية الكفاءة ساهمت بتراكم مهم لرأس المال الخاص الذي دعم البرجوازية العراقية كقوة اجتماعية ذات وزن اقتصادي, إذ أن تلك الفعاليات تمثلت بحقول إنتاجية حيوية مثل الصناعات الغذائية
والكحولية والمنسوجات والجلود والصابون والدخان والكبريت والمشروبات الغازية والإنشائية ... الخ , إن هذا التحول من الاقتصاد الطبيعي إلى الاقتصاد الصناعي كان قد دعمه بمنظومة أساسية من التشريعات والإجراءت الحكومية أفضت إلى صدور قانون تشجيع المشاريع الصناعية عام 1929 والذي يعد في الواقع قانونا لحماية وتنظيم الأنشطة الاقتصادية الخاصة. ليست محنة القطاع الخاص هذه بالجديدة , فقد عانى هذا القطاع الكثير من التدخلات والإملاءات من قبل القطاع العام ممثلا بالدولة منذ أن فشل مشروع بناء الهوية الاقتصادية الجديدة للدولة العراقية بعد خلع النظام الملكي عام 1958. للقطاع الخاص تاريخ عريق وتراث من التراكم لايستهان به كما أسلفت بعجالة, غير أن ذلك لم يكن كافيا ليخلق القاعدة الاجتماعية المطلوبة لجعله ندا حقيقيا للقطاع العام يشارك بفاعلية في عملية التنمية الشاملة, حيث أن تجربته الناشئة قد تعرضت إلى العديد من الصدمات والتحديات الأمنية والسياسية ما جعله يتوقف قسرا لتنقطع في تجربته استمرارية التراكم البنائي.إن المحنة الأكثر قسوة التي مر بها القطاع الخاص في العراق تمثلت بكونه قد أصبح هدفا مركزيا لكافة إشكال التنظيرات الاقتصادية للايديولوجيات القومية بعد عام 1963 ،وبلغت هذه الدورة المؤذية للقطاع الخاص ذروتها بهيمنة أيديولوجيا البعث على مجمل الحياة الاقتصادية حيث ارتكزت أسس فلسفته الاقتصادية على مبدأ تعددية الأنشطة الاقتصادية مع التركيز على تحجيمها لحساب تطوير وتوسيع القطاعات الإنتاجية الخاضعة للدولة أو بعبارة أخرى مركزة الاقتصاد الوطني وجعل الدولة المستثمر الأساس فيه مايمنحها حق التخطيط والإشراف, حيث تجلت هذه السياسات في مجموعة قوانين التأميم الصادرة عام 1964.لقد أسفرت الفلسفة الاقتصادية للبعث عن المزيد من التقييد لمسيرة القطاع الخاص التي كانت أصلا تعاني من عمليات إضعاف وهيمنة حتى تم أخيرا حجب القطاع الخاص في العراق عن أية عملية قد تؤدي إلى مزاحمة الدولة ،وأعني بالمزاحمة هنا الإسهام بحجم التداول الاجتماعي الذي يمكن الدولة من المراقبة والسيطرة على مجمل الحياة الاقتصادية، وبالتالي الاجتماعية لضمان إحكام قبضتها على المجتمع وفعالياته.بفعل الشراكة الوطنية التي شهدها العراق فترة السبعينيات تمتع القطاع الخاص ببعض المزايا المؤقتة والمهمة في الواقع, تمثلت بمنظومة مهمة من الحماية والتسهيلات بدأت من القروض الميسرة والإعفاءات الضريبية والكمركية حتى إقرار الأراضي وضمان حق المنتج , غير أن ذلك كله قد بدأ بالتأثر والتبدد مع انفراد يمين البعث بالسلطة وبداية حرب الخليج الأولى عام 1980.إن منهجة الاقتصاد بطريقة تقوية القطاع العام من جانب وتحجيم النشاط الخاص من جانب آخر أديا بالضرورة إلى إيقاف مراحل التراكم والخبرة لدى القطاع الخاص وعلى الأخص الصناعي منه حيث تحولت جميعها إلى مجرد مشاريع صغيرة أو متوسطة بأحسن الأحوال لم ترق حتى إلى مستوى التأثير الفعلي بحجم الناتج الإجمالي القومي, ماأنتج لاحقا ضمور التأثير الإنتاجي للقطاع الخاص مقابل المزيد من الخبرات والتطوير وتحديث وعصرنة الخطط والمعدات والإدارة للقطاع العام. لم تكن فترة الحصار الدولي على العراق فرصة للقطاع الخاص لاحتلال مواقع إنتاجية متقدمة تمنحه أفضلية صياغة سياسات تسويقية على خطورتها سياسيا آنذاك لأن قطاعا خاصا ضعيفا ومفككا فاقدا للتأثير الاقتصادي ومكبلا بمنظومة هائلة من القوانين المعيقة لايمكن له أن يحتل مواقع قطاع عام أخذ بالتخلف والتراجع على أصعدة الإنتاج والإدارة والتباطؤ بعمليات النمو الاقتصادي نتيجة تأثره بالحصار الدولي, فأسفرت هذه الحالة عن قطاع عام متضخم ولكنه متخلف، وقطاع خاص ضعيف ولكنه أكثر تخلفا حتى دفعت هذه النتيجة باتجاه إصدار وتشريع مجموعة من القوانين المتعلقة بالتبادل التجاري بعد عام 2003 أحدثت اهتزازا خطيرا في بنية القطاع الخاص على علاته وأدت إلى انهيار أجزاء كبيرة منه وخصوصا في الفروع الصناعية أو الإنتاجية بأنواعها. على خلاف ما كان مأمولا من قبل الكثيرين لم يتمكن عرّابو مرحلة مابعد 2003 من مد يد المساعدة للقطاع الخاص في خضم واقع تطلب إجراءات سريعة لسد النقص الحاد في الحاجات الأساسية للمجتمع مع وجود سيولة معقولة تم ضخها, حيث عجز القطاع الخاص عن التحرك بهذا الشأن وهذا تماماً ما كان متوقعا وفقا لهيكلة هذا القطاع التاريخية.إن برنامج مقصلة الأنظمة أو كما يصطلح عليه بـ (Regulatory Guillotine) الذي تبنته إحدى المنظمات الدولية وهي الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في أحد مشاريعها للإسهام بفك الاختناقات القانونية والعمل على رفع سقف مرونة القطاع العام وأعني الدولة لتقبل القطاع الخاص كشريك حتمي تتطلبه المرحلة التاريخية من اجل الخروج بالاقتصاد الوطني من نفق الأزمات بل والكوارث التي تعصف به من
القطاع الخاص يلوذ بمقصلة الأنظمة
نشر في: 26 سبتمبر, 2011: 06:59 م