TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > سيرة المنفى.. الأمكنة التي فقدناها

سيرة المنفى.. الأمكنة التي فقدناها

نشر في: 30 سبتمبر, 2011: 06:11 م

شاكر الانباري 2-2 ما عشته من تحولات سواء ككاتب أو كانسان، لا يختلف كثيراً عن تحولات شعب، هو الشعب العراقي، ربما يختلف الموضوع في قراءة تلك التجربة، والبحث لها عن معنى، واستخدامها في عمل إبداعي أو فني. تجربتي هي تجربة غالبية العراقيين، ومن هذا الجانب استخدمت الكثير مما مر بي وجربته في كتابة رواياتي وقصصي ومقالاتي.
 لقد عشت تبدلات المكان فهاجرت أكثر من مرة، وعشت الهجر والحنين حين تعرفت على أصدقاء في أكثر من بلد ثم تركتهم، وخلّف فراقهم الأسى. أسست مكتبات شخصية في الحامضية ودمشق وكوبنهاغن ولندن وكردستان ثم تركتها، أو بعتها، أو خبأتها في خزائن على السطوح. ربيت أطفالا في بيئة أوروبية وغادرتهم، وتركت زوجة وبيتا ومكتبة، وبقي السفر الطويل هو ذاته، ويبدو أن جيلنا هذا، لن يرى حياة مستقرة بعد اليوم. علينا أن ندفع ثمنا كان ينبغي دفعه نتيجة لتخلفنا الحضاري، ندفعه مرة واحدة، وهذا قدر شعب وحضارة وبلد.الأمكنة تترك بصماتها على السمات، وعلى الحديث والصوت، ونظرة العين. وعشت أنا كل تلك التبدلات والتغيرات، وهذا أمر طبيعي. فالهواء له تأثير، وكذلك الطعام واللغة والشمس والتضاريس والتواجد في بقعة معينة من الكرة الأرضية، ومعاشرة بشر بذاتهم، هذا كله يترك بصماته على الوجه وعلى العين والنظرة والحساسية تجاه الحياة. في الدانمارك قالوا إنني أشبه شخصاً إسبانياً، وفي دمشق نعتني أصدقائي العراقيون بأنني أصبحت شامياً، وحين عدت إلى العراق قال صحبي الدمشقيون إني استعدت سماتي العراقية. ومع نفسي أقول انك أصبحت خارج الأوطان والأديان والحضارات، أي خارج التصنيف، وهذا ليس بالغريب في زمننا هذا، زمن الهجرات البشرية والاغترابات.كرس الروائي الترينيدادي، من أصل هندي، ف. إس. نايبول، لشخصيات من هذا النوع، عشرات الروايات والكتب، وهي شخصيات بالملايين عدا، عرب وهنود وباكستانيين وأفارقة وأوربيين. وهذا مظهر من مظاهر العولمة، فإنتاج حضارة كونية لا يمر إلا من فلتر امتزاج الثقافات، لكن ذلك يأتي مصحوبا بأطنان من الألم والمعاناة والقصص. وأنا رغم كل هذه المسيرة المؤلمة، مسيرة التبدلات التي لم تنقطع منذ حوالي خمس وعشرين سنة، أعتبر نفسي محظوظاً. جدّ محظوظ، لأنني رأيت برلين ولندن وكوبنهاغن ودمشق وبيروت وساوباولو وطهران، بغداد وهامبورغ وأودينسة التي تحدر منها هانس كرستيان اندرسون، والبصرة وعمان ومدينة شيراز الحاوية على ضريح الشاعر والمتصوف سعدي الشيرازي. واعتبرت نفسي محظوظاً لأنني رأيت خرائب الفلوجة، وآثار السيارة المفخخة التي ضربت ساحة التحرير، والطائرة التي قصفت، والجندي الذي قضى. أعتبر نفسي محظوظاً لأنني أعرف أكثر من لغة، وتزوجت أكثر من امرأة من أكثر من بلد وحضارة، وأعتبر نفسي محظوظاً لأنني رأيت انهيار ديكتاتورية والسقوط في فوضى والبحث عن ملاذ آمن. سافرت وعشقت وتزوجت وطلقت وخلّفت أطفالاً وهجرت أصدقاء وتعرفت على ناس جدد وقرأت كتبا وشربت في صالات وحانات وتذوقت آلاف الوجبات من مختلف أصقاع الأرض. هذا منفى حوّلني إلى إنسان. حوّلني إلى خلية حساسة تشارك البشرية آلامها وأحلامها رغم الاختلافات في الأديان واللغات والبلدان. لم أعد أمتلك أي وهم حول أدوار المثقف، فلكل شخص دور في الحياة، وعليه أن يعيشه بعمق وشرف وقوة وحماس، إنني أصبح على الحياة كل يوم بابتسامة وضحكة، وأحس وكأنني أعيش أول يوم في حياتي. حين سمعت فيروز في صباح بغدادي قبل يومين، حسبت أنني أقف على شاطئ اللاذقية متأملاً المتوسط، ناظراً إلى الضفة الثانية وفي قلبي حنين إلى السفر. أؤمن أن الحياة ليست معضلة، ولا مشكلة، إنما هي تجربة تستحق أن تعاش، وبنبل وكرامة وفضول وتفاؤل. لذلك لم أحقد على بلدي، ولن أحقد، إذا لم يوفر لي الحياة التي أريد. وسأغادره برحابة صدر، وسأختلق له الأعذار كي لا أكون له عدواً. لأنني لا أستطيع أن أنفصل عن قتلته، وأصولييه، ومتنوريه، وشرفائه، ولصوصه، وخرابه، ونخيله وأشجاره وحرارته الجهنمية وتخلفه وحدته وقسوته. هو مادة خيالي وأفكاري وإبداعاتي القادمة. هو المصهر الذي سأخرج منه رغيفا جديدا، أسدّ فيه جوعي إلى وطن غائب.جوع إلى وطن يتشكل في فرن نووي لن يهجس سماته أحد، مهما امتلك من قدرة على التنبؤ. صحيح إنني عشت في بلدان كثيرة، لكن المرة الأولى التي شعرت فيها بأنني لست غريبا هي حين عدت إلى العيش في الوطن. في كل بلدان العالم، كان هناك سؤال موجه لي في يوم ما، في ليلة ما، في لحظة ما، ذلك السؤال هو: من أنت؟ ولم أنت هنا؟ ولماذا تركت البلد؟ المكان الوحيد الذي لم أواجه فيه بسؤال، أو أسئلة مثل تلك، هو العراق، فأنا فرد من ملايين تتحرك في الشوارع، أجلس في مقاه شعبية قذرة، أحشر جسدي في سيارات مكتظة بالبشر، وأستمع إلى حوارات كأنها هابطة من حضارة خارج الأرض. أعتقد بعض الأحيان أن ثمة بشر ينتمون إلى القرون الوسطى، وهم يعيشون بين ظهرانينا، ولا علاقة لهم بما نكتبه أو نتعلمه أو نعانيه. سألني ذات مرة بائع الشاي الذي يقف تحت سقف سينما النصر، قرب شارع أبي نؤاس، إن كنت لبنانيا، فقلت له لم تعتقد ذلك؟ قال لهجتك تختلف.كانت أمنياتي وأحلامي أن أمتلك بيتا صغيرا أسكن فيه، وأن أقيم فيه مكتبة دائمة، وأفرشه، وأؤثثه كما أرغب، وأعيش فيه شيخوختي. كنت أحلم أن أسافر بين

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

بغداد/ المدى تنطلق فعاليات الدورة الخامسة من معرض العراق الدولي للكتاب، في الفترة (4 – 14 كانون الأول 2024)، على أرض معرض بغداد الدولي.المعرض السنوي الذي تنظمه مؤسسة (المدى) للإعلام والثقافة والفنون، تشارك فيه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram