أوس عز الدين عباس | 2 - 2 | وقد ترتب على هذه النظرة إلى الدين كعنصر أساسي وفطري في التكوين البشري، ظهور حركة متنامية الآن ضد العلماء والمفكرين العلمانيين الذين يوصفون في بعض الكتابات بالعلماء ((الملحدين))، من أمثال ((ريتشارد دوكينز)) و ((دانييل دينت)) و ((كريستوفر هيتشنز))، والذين يعتبرون بأن الدين مجرد ((وهم سيئ وضار))، ويرتكز ذلك الهجوم على إن النزوع إلى الدين يساعد على تنظيم الحياة وإعلاء الكرامة الإنسانية وتماسك المجتمع والانتماء إلى رابطة أعلى وأسمى من العلاقة بين الأفراد وأكثر تجريدا من التنظيمات الدنيوية والتي يتولى الإنسان صنعها وصياغتها لخدمة أغراضه المحسوسة الجزئية،
ومن هنا كانت تلك الصحوة الدينية التي نشاهدها الآن، والتي يمكن رصدها بسهولة حتى في أشد المجتمعات تمسكا بالعلمانية، وبدلا من الحديث الذي كان يسيطر على جانب كبير من الأوساط الثقافية والفكرية في العالم عن ضرورة تحديث الدين بدأت تظهر دعوة قوية إلى ((تدين الحداثة)).وتعتمد حركة العودة إلى الدين على أساليب وطرق متطورة وحديثة لنشر دعوتها على أوسع نطاق،مثل الالتجاء إلى البرامج الدينية التي تبثها كثير من القنوات التلفزيونية والإذاعات، وحتى في دول الغرب،وإنشاء الصحف والمجلات والدوريات الدينية المتخصصة، وكذلك الإقبال الشديد على إنشاء كليات جامعية ذات طابع ديني،كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص،واستخدام الإنترنيت،وقيام أحزاب سياسية ذات توجهات دينية،فضلا عن الجماعات الدينية الأهلية الكثيرة،وقد ترتب على ذلك الآن إنه ظهر على السطح تعبير قد يحتمل أكثر من تأويل،وهو ((مقاولو الدين))،ويقصد به رجال الدين والدعاة المحترفون،وقد صاغ هذا التعبير عالم الاجتماع والاقتصاد ((بيتر دروكز)) للإشارة إلى رجال الدين الذين يسلكون في نشر الدعوة أسلوبا دعائيا يشبه الأساليب والطرق التي يلجأ إليها رجال الأعمال لتسويق بضاعتهم،مما قد يؤدي إلى نتائج عكسية،فقد أصبح هناك ما يشبه التنافس على جذب الزبائن والعملاء،وهو ما يؤدي في كثير من الأحوال إلى التنازع والصراع بين مختلف المذاهب الدينية بدلا من التعاون لنشر رسالة الدين السامية المجردة .وعلى أي حال،فقد بدأ كثير من العلمانيين يراجعون في السنوات الأخيرة مواقفهم من الدين ودوره في الحياة، وإن يكن هناك في الوقت ذاته كثير من التعصب الناجم عن الرغبة في المحافظة على الهوية الاجتماعية والثقافية والتي يمثل الدين جزءا جوهريا فيها،وهذا في حد ذاته دليل على الاعتراف العام والقوي بأهمية الدين،بالرغم من دعاوى العلمنة والاتجاهات الفكرية والوضعية لها،إلا إن السؤال الذي تثيره بعض الكتابات الأخيرة حول هذا الموضوع هو: ((هل تغير الصحوة الدينية والإيمانية الراهنة العالم في المستقبل ؟ وما مدى توافق الدين مع متطلبات الحداثة ودعاواها ؟)) .وفي كتاب حديث بعنوان ((هذا إلى الدين))،والذي صدر في ((أبريل 2009))، وله عنوان فرعي آخر هو ((الإحياء العالمي للإيمان يغير العالم))،يذهب المؤلفان ((أدريان ولدريدج)) و((جون مايكل ثويت))،وهما من هيئة تحرير مجلة ((الأيكونوميست)) البريطانية،إلى إن الدين يتلاءم تماما مع التحديث والحداثة وبكل صورها وأشكالها وأبعادها ويستطيع التعايش مع متطلباتها واتجاهاتها الحديثة العديدة والمعقدة،وكان من الطبيعي أن تثير هذه الأحكام القاطعة حفيظة وغضب ومعارضة عدد من الكتاب العقلانيين الذين يرفضون الدين،لأنه يدخل في رأيهم في باب الغيبيات والأوهام ويرتبط بطفولة البشرية،وإنه كلما اقترب المجتمع من الحداثة ضاقت المساحة التي يشغلها الدين كعقيدة وممارسة،ويرفضون شعار: ((إذا أردت أن تكون حديثا فعليك أن تقول وداعا للدين))،ولكن المؤلفين يريان العكس من ذلك،حيث إن الحداثة وازدياد التوجه نحو الدين يسيران جنبا إلى جنب، وليس أدل على ذلك مما يحدث في المجتمع الأمريكي الذي يمثل قمة الحداثة،ولكنه يشهد في الوقت نفسه ازديادا في قوة وفاعلية الدين في الحياة اليومية والسياسية،إلى جانب ظهور عدد كبير جدا من النزعات والاتجاهات والدعاوى والحركات الدينية أو شبه الدينية،والتي تعبر في بعض أبعادها على الأقل عن التمرد على الأوضاع المادية التي تميز الحضارة الغربية الحديثة،وما يحدث في أمريكا له شبيه في مجتمعات جنوب شرق آسيا بدياناتها غير السماوية،والتي ترتكز على أية حال على مبادئ أخلاقية صارمة.وترتبط هذه المشكلة بقضية العلاقة بين الدين والعلم في ضوء التغيرات والكشوف العلمية الحديثة في ميادين البيولوجيا والبحوث الأنثروبولوجية عن الدين وفي مختلف الثقافات والاكتشافات الأركيولوجية التي قد تلقي ظلالا من الشك على بعض المعتقدات الدينية،ولكن النظرة الآن إلى العلاقة بينهما تميل إلى اعتبارهما طريقتين مختلفتين ولكنهما متكاملتان في النظر إلى الأشياء،وإن الأمر يتعلق في المحل الأول بما يحب الإنسان أن يعرفه ونوع التساؤلات التي تصدر عنه،لأن اختلاف الأسئلة هو الذي يؤدي إلى اختلاف المداخل وأساليب ومناهج العلم،وعلى ذلك فإنه من الخطأ النظر إلى الدين والعلم على إنهما متعارضان أو متنافسان لأن الاثنين مطلوبان لمتابعة التساؤلات المختلفة في طبيعتها ونوعيتها،وإنهما يشاركان معا في تحديد المستقبل،بل وقد يمكن أن يقوم بينهما نوع من التعاون في النظر إلى الأشياء والوصول إلى درجة أعمق من الفهم .وهناك في بعض الجامعات في الخارج من يجمع بين الدراسات اللاهوتية والعلوم البيولوجية،وفي استطلاع أجرته مجلة ((الحداثة)) البريطانية في ((أبريل 2004)) عن موقف الأجيال الحديثة من
عولمة الدين وازدياد حركات التشكيك فيه
نشر في: 30 سبتمبر, 2011: 06:17 م