عبد الخالق كيطان كثيرون يعتقدون أن الأميّة تمنع قيام المجتمع الديمقراطي، وهو اعتقاد صحيح بدرجة كبيرة. ولكن البحث في كيفيّة تخطّي هذه العقبة يظلّ مثار اجتهاد دائم. نحن بإزاء أميّة لا ترى من المجتمع الديمقراطي غير الممارسة الانتخابية، والممارسة الانتخابية هي مجرد حلقة في بناء كبير جداً.
إن الأميّة هي التي تنتج المجتمع الأبوي الذي تحدثنا عنه في "عين" سابقة، وبالتخلص من الأميّة نتخلّص من مشكلة المجتمع الأبوي التي تنتج الديكتاتوريات والزعامات المقدسة. ولكن مكافحة الأمية مسألة صعبة للغاية وتحتاج إلى تضافر جهود وطنية كبيرة تشارك فيها مختلف المؤسسات الحكومية وغير الحكومية.ان العراق، مثل غيره، ينقسم سكانه إلى قسمين: القسم الأول يمثّله سكان المدن، والقسم الثاني يمثّله سكان القرى والأرياف والصحارى... وغالب الظن في العقود الماضية يتركز بالقول أن الأميّة محصورة في القسم الثاني، أما سكان المدن فهم متعلمون تعليماً مناسباً. نستطيع التأكيد على أن مراكز المدن العراقية بشكل عام كانت تحتضن عشرات المراكز الحضرية، وإن أبناء المدن يمارسون حياتهم المؤهلة بالفعل للانتقال إلى المجتمع الديمقراطي. إلا أن زحف القرية إلى المدينة قلّل من فرص ذلك، بل وضيّق الخناق أمام أي إمكانية للتحوّل. وها نحن في العام 2011 والقرية في البلاد لا تختلف بشيء عن المدينة في نواح كثيرة. يعمل اليوم في بغداد، على سبيل المثال، عمال قادمون من مختلف أنحاء العراق، وهم لا يجيدون القراءة والكتابة. مثل هؤلاء، وهم شريحة واسعة جداً من الذكور، لا يدينون بالولاء إلا إلى رمزهم في خيالهم الجمعي، وبالتالي فإن قيم المجتمع الديمقراطي التي نتحدّث عنها بعيدة تماماً عن أفكارهم. ماذا عن أرقام الإناث الأميات؟ إنهنّ أكثر بكثير من أرقام الذكور الأميين، وتلعب عوامل دينية واجتماعية دوراً بالغاً وحاسماً في إبقائهن بلا تعليم. ومثل هؤلاء الإناث لا يعرفن شيئاً عن المجتمع الديمقراطي، بل يقبعن في فكرة تقديس الرموز ذاتها.وبدء حملة وطنية لمكافحة الأميّة ستضرّ كثيرين فيما تنفع بالمجمل مختلف أطياف الشعب. الذين تضرّهم مثل هذه الحملة يريدون إبقاء الناس في جهل مطبق فتختفي أيّ مطالبة بالإصلاح أو بالحصول على رعاية طبية مناسبة أو أي حقوق بالمجمل. سلطات هؤلاء تستمر باستمرار الجهل والأميّة. وفي الوقت ذاته فإن القبول ببقاء بضعة ملايين من العراقيين بعيدين تماماً عن نعمة القراءة والكتابة، وما يلحق بها من شروط إنسانية لم يعد أمراً مقبولاً. وثمّة نوع آخر من الأميّة لا يقلّ خطراً عن النوع الأول هو أميّة المتعلمين!إنّ سنوات من القتل والعذاب والسياسات التربوية الخاطئة، ناهيك عن الصراعات المذهبية والطائفية والقومية قد انتجت جيلاً جديداً من المتعلمين من الممكن أن يضحوا بكل شيء من أجل الدفاع عن الرموز ذاتها التي يدافع عنها غير المتعلمين. وهي رموز مستوحاة من المجتمع الأبوي الذي تحدّثنا عنها، وليست رموزاً للتمدن والتحضر والوطنية. في العراق اليوم أعداد كبيرة من المتعلمين الذين لا يعرفون شيئاً عن المسرح والموسيقى والرسم والشعر والإعلام والتقنيات المعلوماتية وما إليه.. بل ينظرون إلى كل تلك المجالات بوصفها من الكماليات، وفي أحسن الأحوال يعدونها ترفاً، أو لا تصبّ في خدمة الوطن أو أن دورها كذا وكذا في فهم خاطئ كلياً. مثل هؤلاء يمثلون عقبة كبرى أمام التحوّل إلى المجتمع الديمقراطي.
عين :الأميّة والمجتمع الديمقراطي
![](/wp-content/uploads/2024/01/bgdefualt.jpg)
نشر في: 1 أكتوبر, 2011: 08:03 م