عبد الخالق كيطان في العقود الأخيرة خسر العراق عدداً من الديانات الصغيرة بسبب سيادة الأحزاب التي ترى في الإسلام الدين الوحيد الذي له الحق بالوجود، بالإضافة إلى المسيحيّة. وتعرّض أتباع الديانات الأخرى، الصغيرة خصوصاً، إلى أنواع من التنكيل والتهميش ما اضطر أعداداً غفيرة من أبناء تلك الديانات إلى الهجرة الطوعية.
ويكثر أتباع تلك الديانات الرافدينية اليوم في بقاع مختلفة من أنحاء العالم. في أستراليا، على سبيل المثال، ثمّة أحياء كاملة يسكنها عراقيون من أتباع الديانة المندائية. وقل الأمر نفسه على المسيحيين والإيزيديين. وهو الأمر الذي يذكره آخرون في الولايات المتحدة وكندا والبلدان الأوروبية. لقد نزح هؤلاء إلى هذه الدول بعد أن تعرّضوا في بلادهم الأصلية إلى التضييق على ممارسة شعائرهم بشكل أو بآخر. لقد عشت في مدينة العمارة جلّ صباي، ومع أن هذه المدينة احتضنت على مرّ التاريخ أتباع بعض الديانات الصغيرة إلا أنني لم أحظ بفرصة الدخول إلى "كينيس" يهودي، أو "مندى" مندائي، على سبيل المثال. كانت هنالك كنيسة وسط المدينة، ولم تزل قابعة في مكانها. نحن نتحدث بكثرة عن التسامح الديني في مدننا، ومنها العمارة، ومع ذلك فإن المندى والمعبد اليهودي والكنيسة المسيحية ظلت على الدوام أقرب إلى الندرة منها إلى الوفرة. الآن ترى أطلال الكينيس والمندى، وهذا يدلل على أنهما كانا موجودين في هذه الأرض، ولكنهما انقرضا أو في طريقهما لذلك.ماذا عن مدن عراقية أخرى؟ ينعم العراقيون من أصحاب الديانات الإيزيدية والمسيحيّة بأمن نسبي وممارسة هادئة للطقوس في مدن شمال العراق. إلا أن الأمر تغيّر إلى حد ما بعد سقوط النظام السابق بسبب من ازدهار تجارة الأحزاب المتشددة. أما أتباع البهائية واليهودية فهم شبه منقرضين في العراق. تذكر دراسات متخصصة أن عدد اليهود في العراق حالياً يعدّ بالأصابع. ما أريد الخلوص إليه في هذا الكلام، أن المجتمع الديمقراطي يعنى بشكل أساس في توفير بيئة مناسبة لحرية الاعتقاد. فالمجتمع الديمقراطي لا يسأل الفرد عن اعتقاده طالما بقي هذا الاعتقاد في حدود الاعتقاد الفكري السلمي الذي لا يؤثّر على حرية اعتقاد الآخرين. إن أعداداً كبيرة من أصحاب الديانات غير المسلمة يخفون دياناتهم الحقيقية في المجتمع العراقي خوفاً، ووصل الأمر، اليوم، أن يخفي أبناء طائفة مسلمة انتماءهم الطائفي في مدينة سكانها يمثلون الأغلبية بالنسبة للطائفة الأخرى. مثل هذه الأمور من الصعب حدوثها في المجتمع الديمقراطي، فالفرد في هذا المجتمع مسؤول وحده عن اختياره العقائدي. كما أن ممارسته لحرية الاعتقاد الديني مكفولة مجتمعياً قبل أن تكون مكفولة دستورياً. لا يمكن أن يتأسّس المجتمع الديمقراطي على عادات الكراهية ونكران الآخر ونفيه وتسفيهه وتكفيره واعتباره عيباً أو كفراً أو نجساً... الخ. لا ينفع في المجتمع الديمقراطي التعالي على مشكلة التنوع الديني، لأنها تصبح في هذا المجتمع مصدر قوة وليست مشكلة كما هو الحال في المجتمع العراقي والمجتمعات المشابهة. كثيراً ما تنظر مجتمعاتنا إلى أتباع الديانات الأخرى بوصفهم أقل من مستوى البشر، فينبغي إحراقهم ودفنهم ونفيهم في أحسن الأحوال. إننا نتعالى في الأعمّ الغالب على مشكلة تنوعنا الديني والطائفي، فنردّد الأناشيد والأغاني في مدارسنا عن ذلك في الوقت الذي تعمل أجهزتنا الأمنية، والمجتمعية، على الحطّ من قيم أبناء الأديان التي تشاركنا كل شيء. المجتمع الديمقراطي هو وحده الذي يضمن الحريات الدينية. ومن أجل الوصول إلى المجتمع الديمقراطي ينبغي أولاً ترويض أنفسنا على احترام أصحاب الديانات المختلفة في البلاد.
عين :الدين فـي المجتمع الديمقراطي
![](/wp-content/uploads/2024/01/bgdefualt.jpg)
نشر في: 2 أكتوبر, 2011: 09:36 م