علي حسن الفواز | 1 - 2 | ربما ظل السؤال القديم عن "لماذائية" تأخر العرب وتقدم الآخرين الذي ردده الكثيرون من الباحثين والمؤرخين، عالقا منذ عقود طويلة أمام الكثير من يوميات مراثينا الثقافية، وفي سياقات البحث عن الشجون التي تحولت إلى مايشبه المازوخيا التي نقهر من خلالها ذواتنا المكسورة والمهروسة، وأحيانا أخذتنا إلى التلذذ بعناوينها الكبرى التي ترثي التاريخ، و(الأمة الخالدة) اوالتماهي مع استعادات الرغبة التعويضية لزماناتها الرومانسية الغاربة.
هذا السؤال ظل مطروحا منذ عشرات السنين، غالى فيه البعض، أو هرب منه البعض الآخر، لكننا نسعى إلى إعادة طرحه ليقيننا أن ظاهرة التخلف والتقدّم هي ظواهر تاريخية، قابلة للفحص والمراجعة، مثلما هي قابلة للمعالجة في ضوء التعاطي مع الأسباب والظروف والمعطيات، وفي ضوء الانفتاح المتوازن والموضوعي على قيم الحداثة والسوق والعولمة والعلاقة الإنسانية مع الآخر، وفي إطار وجود إطار الدولة مؤسسة حمائية، وفي ظل استحقاقات الحريات والحقوق وقيم السلم الأهلي..هذه الظاهرة تفترض بالمقابل أيضا وجود القراءات المعمقة والموضوعية التي تبحث في المسكوت عنه في تاريخ الدولة والجماعات، والذي تحولت الكثير من تداعياتها إلى أسباب أدّت إلى هذه النتائج المروعة، بعيدا عن التماهي القسري مع أوهام الحداثة، وأوهام الماضي، وبعيدا عن إنتاج المزيد من المراثي التاريخية لذواتنا المهووسة الآن بمثيولوجيات التاريخ وتخيلاته السردية، إذ تحولت هذه المراثي إلى جلد علني للذات، جلد شعري ولغوي وفقهي، وأخيرا جلد بصري، مثلما تحولت إلى مباهاة مفخمة وغير واقعية للذات القومية، دونما توافر على شروط وسياقات البحث العلمي والحقيقي لما حدث في زوايا وسرائر تلك الزمانات، وماتوفر كذلك من وثائق ومدونات تؤرخ لتاريخ الأزمة بعيدا عن تأويل أصحاب الفرق الناجية. فهل علل تلك المفارقات وظواهر التردي تكمن في ذواتنا حقا -أي في قراءاتنا المضللة، واستشراء الجهل والتخلف، وفشل قيم الدولة والمجتمع- أم أن لها علاقة إشكالية بالصناعات المريبة للآخر الاستعماري والتبشيري والاستشراقي؟ وهل يمكن أن تكون في سوء تمثلنا قيم التثاقف والتقدم والحضارة وضرورات المستقبل، والكيفية الحقيقية التي نتعامل بها مع موضوعات معقدة لكنها ليست مستحيلة كالهوية والحرية والحوار بين الثقافات، وقبول الآخر المختلف، وإعادة قراءة التاريخ وغيرها؟هذه الأسئلة العديدة وغيرها وجدت في مقاربات الباحث د.هاشم صالح في كتابه "الانسداد التاريخي..لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي" الذي أصدرته دار الساقي في بيروت مجالا مفتوحا للتعاطي مع(مثيرات)هذه الأسئلة المعقدة، تلك التي تحولت إلى أسئلة في الوجود والمعنى والهوية والتنمية، إذ صبت الكثير من موجهاتها باتجاه إنتاج عديد الأفكار التي تخص مشكلة الانسداد المعرفي، بوصفها مشكلة إنسانية/ثقافية وحقوقية واجتماعية وسياسية، فضلا عن علاقة هذا الانسداد كمفهوم لأزمة الدولة والجماعات بالإشكالات الحادثة حول قضايا التنوير الفكري والجدل والتنوع والنقد وعلاقة ذلك باشتغالات العقل العربي، ومقاربة أسئلتها الأخرى التي تلامس حيثيات هذه الظواهر وسبل تعاطيها مع القيم الجوهرية لمفاهيم الدولة والعقل والهوية واللغة والدين. فهل العقل السياسي الذي ترسمت تموضعاته المؤسسات التقليدية في السلطة والفقه ودار الأحكام والتشريع قادر على صناعة طروحاته النقدية الفاعلة في مواجهة معطيات ما يحدث حوله؟ وهل النخب الثقافية العربية تملك الآليات والإمكانات التي يمكن من خلالها إعادة إنتاج(ظاهرة القوة) وشرعنة عمليات النقد والبحث عن الأسباب الظاهرة والخفية لفشل مشروع التنوير في مواجهة أزمة انهيار مظاهر العمران الثقافي والسياسي؟ وهل الكثير من مظاهر العقل السياسي العربي بوصفها مظاهر طائفية وأمنية لها علاقة بإنتاج طبائع وظواهر الاستبداد التي وسمت طبيعة السلطة العربية التاريخية والدينية التقليدية والمنغلقة والرافضة لأي خطاب نقدي يسعى إلى المغايرة والتنوير؟ وهل التوصيف المفهومي لنقد العقل العربي كما شيّع له البعض، هو نقد متكامل لكل القوى المسؤولة عن الانسداد، أم هو نقد الاكتفاء القائم على مواجهة ظاهر السؤال؟ وهل قيمومته الضاغطة والمكرسة هي المسؤولة عن تكريس تلك الأزمات التي ظلت تواجه الواقع العربي، وإضعاف القدرات على مواجهة الأزمات والمشكلات المعقدة التي تنخر في جسد البنيات السياسية والثقافية والاجتماعية؟منذ عقود مبكرة حاول الكثير من علماء الاجتماع والتاريخ العرب والمسلمين والمسيحيين من التنويريين وغيرهم، البحث في معطى هذه الظواهر، وطبيعة آثارها التي تركت الجرح النرجسي للأمة وجماعاتها ينزّ فاغرا فمه، ومكشوفا على نكوصات نفسية لا تملك الاّ ان تستعيد لحظات اشراقها التاريخية التي ارتبطت بنمطية الدولة السياسية من جانب، والكثير من المظاهر الثقافية التي جعلت من المدن حواضن معرفية وثقافية وسياسية فاعلة، والتي تكشف في جوهرها عن خصوصية المدينة، وخصوصية النظام السياسي وطبائع التقاليد الثقافية السائدة ودورها في تعميق قيم الحوار والانفتاح على الثقافات الإنسانية دون أدنى إحساس بالاغتراب.. فضلا عن الكشف عن جوانب مهمة تتعلق بدور النظام السياسي وأنماط سياساته وإدارت
عند رثاء التاريخ والمركزيات.. من يشرعن ثورات الشعوب؟
نشر في: 3 أكتوبر, 2011: 06:40 م