عبد الخالق كيطان توصّلنا في "أعمدة" سابقة إلى القول بأن النظام السياسي الديمقراطي لا يمكن أن تتحصّل عليه الشعوب بدون بناء مجتمع ديمقراطي، ولعل من ركائز هذا المجتمع الأساسية الإعلام. إن المجتمعات الديمقراطية التي نعرف اليوم تنتج على الدوام وسائل إعلام غير مسيطر عليها. وهي وسائل تجتذب كفاءات مهنيّة تعيش في وضع اقتصادي مميّز. في تلك المجتمعات لا يمكن لكل من هبّ ودبّ بأن يعمل في المجال الإعلامي،
والسبب بسيط، هو أن العاملين في هذا الوسط كلهم من الكفاءات المشهود لها. هنالك لا مجال للقرابة والنسب، ولا للعلاقات، ولا للمتخرجين من الكليات المتخصّصة. أوّل شروط مزاولة العمل الصحافي تتمثّل في الكفاءة. وعادة ما تقوم الأحزاب القويّة بالاستثمار في الحقل الصحفي، ولكن شريطة عدم تدخلها المباشر في آليات العمل، أو فرض قصص إخبارية أو تحليلات معينة تناسب توجهات الحزب على حساب مصالح الشعب. ويقوم صحفيون أكفّاء بإعداد تقاريرهم بمنتهى الحرية، فلا تنشر كلمة إلا بعد الوثوق من صدقيتها، ولا يطلق اتهام بدون سند. الصحافة في المجتمع الديمقراطي مقروءة من قبل قطاعات واسعة. وهي توزّع بشكل كبير. تجد الصحف في عيادات الأطباء ومراكز الشرطة والمكاتب العقارية والمحلات الصغيرة... وتجدها حتماً في البيوت. لم تتأت صدقية وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة في المجتمعات الديمقراطية بقرارات من النظام السياسي الديمقراطي، ولا لأن الأحزاب المتنفّذة هي التي تصدر تلك الوسائل، بل لأن الإعلام بشكل عام يعدّ بالنسبة لعموم المواطنين من ضروريات العيش المعاصر. وفي المجتمعات غير الديمقراطية من النادر أن تعثر على وسيلة إعلام محترمة، بمعنى الاحتفاظ بمسافة مناسبة بينها وبين السلطات أياً كانت هذه السلطات سياسية أو اقتصادية. وفي العراق، على سبيل المثال، يتّفق المراقبون بشكل عام على أن وسائل الإعلام في هذه البلاد محكومة بمثل تلك السلطات، وهي مضطرة على الدوام إلى المحاباة. هكذا تكثر أعداد العاملين في الحقل الصحفي بطريقة ملفتة للنظر. كما تكثر وسائل الإعلام المختلفة دون أن تترك أثراً في أذهان المتلقين. إن أغلب وسائل الإعلام في العراق متشابهة بدرجة واضحة. والفروقات بين وسيلة إعلام وأخرى تتحدّد في توجّهاتها الفكرية التي غالباً ما تكون مستمدة من التوجهات الفكرية للممول. وعلى العموم فإن المموّل في الحالة العراقية هم أصحاب الأحزاب التي تتقاسم السلطة أو تنفرد بها، وكذلك القريبون منها. وتمثّل إعادة الثقة بالإعلام العراقي خطوة ممتازة على طريق بناء المجتمع الديمقراطي. ولكن المؤسف أن أغلب وسائل الإعلام المقروءة، على سبيل المثال، لا تصل إلا إلى أعداد بسيطة جداً من أبناء الشعب بالقياس إلى عددهم الكلي، وهناك أرقام صادرة من مؤسسات بحثية معتبرة ألقت الضوء على هذه الظاهرة. وباختصار شديد يمكننا القول أن أفضل المطبوعات العراقية لا تستطيع طباعة أكثر من 25 ألف نسخة يفترض أنها موجهة إلى ما لا يقل عن 10 ملايين مواطن قادرين على القراءة.مسألة ثقة المواطن بوسائل الإعلام العراقية موروثة ولا شك من عقود الديكتاتوريات. ويحتّم الانتقال من المجتمع الأبوي الخاضع للديكتاتورية إلى المجتمع الديمقراطي بناء علاقة جديدة بين وسائل الإعلام والجمهور.. فكيف يمكن تحقيق مثل هذه الغاية؟
عين :الإعلام والمجتمع الديمقراطي
نشر في: 3 أكتوبر, 2011: 08:52 م