حاوره عباس بيضون كان توماس ترانسترومر على كرسي عادي في مقهى وسط المدينة، أما على كرسيه ذي العجلات فكانت تجلس زوجته، لم يكن هناك أبسط من ذلك ليبدو كل شيء عادياً، ليبدو كرسي ترانسترومر، الذي هو قفصه، ومرضه بالتالي مألوفين تماما بل غير ملحوظين في ساحة البرلمان وتحت شمس الربيع، ترانسترومر الذي رأيت صورته لأول مرة في رسالة بالأنترنت
من عدنان الصائغ الشاعر العراقي الذي يعيش في الكويت كان مختلفاً عنها، لم يكن على وجهه الإعياء الذي على الصورة ولا الغربة التي بدت عليها وسط المحتفلين به في السويد. كان وجهه مرتاحا بل وفتياً كأن العجز أعاده جزئياً إلى نوع من الاستسلام الطفولي للحياة والأشياء، أكاد أقول إن العائلة كانت سعيدة في هذا المكان، كان على الطاولة بعض النُّقل والبيرة، العائلة حول الطاولة في عدم انتظام وكأنها في بيكنيك، توماس يتناول حبة فستق ويضعها في فمه، الابنة تذهب وتعود وجنب ترانسترومر المرأة التي هي الآن كل عالمه تقريباً. جميلة وقوية وحاضرة بقامتها الكبيرة وأناقتها وصوتها، كانت جنب ترانسترومر وعند يمينه وهو في كنفها وديعا وصامتا ومطمئنا. كانت هذه صورته لكن صوته ولغته وجزءاً من ذاكرته في هذه المرأة التي لا يتحرك إلا عبرها. كون الاثنين لغة لهما وحدهما.، أسأل بالعربية، يترجم قاسم حمادي <<مترجم ترانسترومر>> إلى السويدية، تلتقط السيدة ترانسترومر الكلام من حمادي تنقله إلى توماس الذي يتكلم بأصوات غير مفهومة وحركات يسلم زوجته الجواب الذي تفكه إلى سويدية ينقلها حمادي إلى العربية. إنها عملية تشبه الأواني المستطرقة، مغامرة صغيرة تتحقق في عدة مراحل للوصول إلى الهدف المحبوس في غرفة مغلقة، لاستخراج هذا الرصد المحروس في صمت ترانسترومر الذي شلته جلطة دماغية وأفقدته صوته. عملية طويلة نسبيا وتحتاج إلى كثيرين للحصول على هذا الكلام الذي قد يكون أيضا غير مقروء أو ممحو أو محيّر. في ما يأتي الحديث مع ترانسترومر الذي سبق ذكر " عملياته ":* شعرك مليء بالمخلوقات والنباتات والمعالم، إنه شعر بيئة، نوع من كتاب طبيعيات شعري. هكذا أرى علاقتك بالطبيعة فأنت من الشعراء الحداثيين النادرين الذين هم شعراء طبيعة؟- السويد بشكل عام دولة حضارية والدين الكلاسيكي أي الكنيسة لا يلعب دوراً كبيراً في حياة المواطنين. لذا يتوجه السويديون، بدلاً من الدين، إلى الطبيعة في بعض الأحيان... إلا أنهم لا يتوجهون إلى الطبيعة فقط لأجل الدين.أنا نشأت مع والدتي ولم يكن والدي موجوداً... وأجدادي لجهة والدتي كانوا بحارة، البحارة يسكنون الجزر عادة. وأذكر جزيرة <<رونماره>> التي كنت أزورها وأقضي صيفياتي فيها وأنا بعدُ صغير.تلك الصيفيات تركت أثراً كبيراً في نفسي... فالطبيعة هناك كانت لا تزال عذراء.اعتاد البحارة الانطلاق من اليابسة إلى الجزر، علماً بأن الأخيرة كانت قريبة من الأرض التي كانوا يسكنونها. وبالعودة إلى الصيفيات التي قضيتها في <<رونماره>>، فهي لم تثر عندي حب اكتشاف الطبيعة لجهة الشعر والمشاعر. أنا كنت أرغب في أن أصبح باحثاً بيئياً... باحثاً علمياً في الطبيعة والحشرات والنبات إلخ... هوايتي الأولى كانت التقاط الحشرات... الفراشات وغيرها. وعندما بدأت أجول في الجزيرة وألتقط الفراشات، ولدت لديّ هواية اكتشاف الجزيرة جغرافياً أو معرفة حدودها. ورحت أدرس كتب الجغرافيا... فأنا أردت أن أعرف أين تقع إفريقيا والقارات الأخرى، وكذلك تلك الجزيرة الصغيرة. بدأت أرسم الخرائط عن طريق الخيال، إذا صحّ القول. فصرت أقول لنفسي: هذه الجزيرة التي أعيش فيها والتي تبلغ مساحتها خمسة كيلومترات مضروبة بخمسة كيلومترات هي إفريقيا... كانت هذه الطريقة أسلوبي في دراسة الجغرافيا العالمية. وبدأت حينها أقتنع بأن عليّ أن أصبح باحثاً علمياً وعالمياً حول الطبيعة والجغرافيا. هكذا كان لقائي الأول مع الطبيعة... عبر جمع الحشرات واكتشاف الجزيرة. بعدها بدأ يظهر اهتمامي بالموسيقى. * تتكلّم كثيراً عن الموسيقى في شعرك...؟ - عندما كنت أتابع دراستي الثانوية في استوكهلم، كنت في صفّ يهتمّ غالبية طلابه بالأدب. ومنذ ذلك الحين بدأت أقرأ شعر السورياليين الفرنسيين. في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمري بدأت أقرأ الشعر وأكتبه. عندما رحت أكتب الشعر قرّرت الاستمرار في ذلك حتى أصبح في ما بعد شاعراً، على أن تبقى الموسيقى هواية. فأنا كنت أشعر بأن العلاقة تكون أسهل وتعطي فرحاً أكبر عندما يكون المرء هاوياً للموسيقى أكثر منه موسيقياً محترفاً. * أي من الشعراء السورياليين كنت تقرأ في تلك الفترة؟ - على الرغم من أن ترجمة تلك الأشعار، في ذلك الوقت، لم تكن دقيقة جداً، إلا أنها كانت بنسبة جيدة لأنها تركت أثراً في نفسي. أيضاً، قرأت لغير السورياليين الفرنسيين، قرأت <<إليوت>> وشعر أميركا اللاتينية. كنت في الثالثة والعشرين من عمري عندما أصدرت كتاب شعري الأول وقد أسميته <<17 قصيدة>>. وبعد هذا الإصدار، اتخذت قراراً بتحرير الشعر من كونه مصدر رزق لي... لك
ترانستومر: اتخذت قراراً بألاّيكون الشعر يوماً مصدر رزقي
نشر في: 7 أكتوبر, 2011: 07:32 م