فريدة النقّاش «وقفتي كمواطن يخشى على وطنه خشية لا حدود لها، لكن وقفتي اليوم كإعلامي تدعوني إلى رصد تدهور ملحوظ في حرية الإعلام المهني، في مقابل تهاون ملحوظ مع الإسفاف الإعلامي، هذا التدهور وذلك التهاون نابعان من اعتقاد من بيده الأمر أن الإعلام يمكن أن ينفي واقعا موجودا أو أن يخلق واقعا لا وجود له».
هكذا قال الإعلامي «يسري فودة» في البيان الذي أصدره بعد توقفه عن تقديم برنامجه اليومي «آخر كلام» الذي كان يذاع على قناة الـ «أون تي في» وكان مقررا للحلقة التي أوقفت ظهور الكاتب «علاء الأسواني» للتعليق على حوار المجلس العسكري مع برنامج العاشرة مساء.وأضاف «فودة» في بيانه استخلاصا يكاد يجمع عليه المحللون والساسة والنشطاء «أن ثمة محاولات حثيثة للإبقاء على جوهر النظام الذي خرج الناس لإسقاطه بعدما ملأ الأرض فسادا وفجورا وعمالة، اتخذت هذه المحاولات طرقا مختلفة بعضها موروث، وبعضها الآخر مبتكر».ويأتي هذا الموقف الاحتجاجي لواحد من ألمع المذيعين وأكثرهم جدية وثقافة بعد فضيحة التغطية الإعلامية للتليفزيون المصري لأحداث ماسبيرو قبل أسبوعين حين وقعت المذبحة ضد المتظاهرين أقباطا ومسلمين الذين جرى دهس بعضهم بمدرعة رغم أن احتجاجهم كان سلميا، وأخذ التليفزيون المملوك للدولة يبث خطابا تحريضيا فظا ضد المتظاهرين ويتهمهم بالعدوان على الجيش، مستنهضا المواطنين للدفاع عن الجيش. كذلك جرى فصل الإعلامية «دينا عبد الرحمن» لأنها قرأت في برنامجها مقالا استفز أحد العسكريين. وقبل شهور أي بعد إزاحة «مبارك» وبعض أعوانه استدعت النيابة العسكرية الإعلامية «ريم ماجد» لمساءلتها حول فقرة في برنامجها كان قد اعترض عليها المجلس العسكري، كما جرت مصادرة عدد من جريدة «صوت الأمة»، وفي بيانات المجلس الأعلى للقوات المسلحة برزت لهجة تهديدية واضحة هي وحدها كفيلة بإرهاب الإعلاميين والمواطنين كافة، خاصة بعد تقديم أعداد متزايدة من متظاهري التحرير للنيابة العسكرية في ظل تفعيل حالة الطوارئ التي كان إلغاؤها مطلبا رئيسيا من مطالب الثوار.وما يجري في ميدان الإعلام ومحاولة محاصرته من قبل المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي سارع بتعيين وزير للإعلام بعد إلغاء هذا المنصب، هو وجه آخر للتخبط في القرارات السياسية المحورية، مثل قانون الانتخابات وتقسيم الدوائر وممالأة فلول الحزب الوطني بالامتناع عن إصدار مرسوم بقانون ينظم العزل السياسي لكل من أفسدوا الحياة السياسية في ظل «مبارك»، فضلا عن التنسيق الضمني مع جماعة الإخوان المسلمين مما أثار حالة من الغموض والخوف من اختطاف الثورة واتساع الفجوة بين المجلس العسكري والقوى الاجتماعية المختلفة.. وبعد كل هذا بدأ السياسيون يستفيقون لحقيقة أن المجلس العسكري كان جزءا عضويا من النظام الذي سقط رئيسه وبعض أعوانه.ويلعب الإعلام دورا محوريا في تشكيل الوعي وبناء الوجدان وتزداد أهمية هذا الدور ومحوريته في مجتمع تعرض لزمن طويل للقيود على الحريات العامة، وما تزال هذه القيود فاعلة رغم اندلاع الثورة وقدرتها على إنجاز بعض أهدافها، وقتل الخوف من النظام في قلوب المواطنين.كذلك هو مجتمع تدهور فيه التعليم وجرت محاصرة كل من الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني لعقود طويلة في ظل الدولة التسلطية التي ألحقت المجتمع بمؤسساتها وقد حولتها إلى أبواق تسبح بأمجاد الحاكم الفرد وأسرته، فضلا عن إفساد هذه المؤسسات مما أدى إلى تحللها من داخلها وتآكل مصداقيتها لدى الجماهير الواسعة التي أخذت تئن طيلة عقود تحت وطأة الإفقار والكذب وإهدار الكرامة.يتضمن بيان «يسري فودة» أيضا دعوة لكل الإعلاميين للدفاع عن حقوقهم وكرامتهم حتى قبل الدفاع عن الثورة، فالدفاع عن حقوقهم وكرامتهم هو الخطوة الأولى الضرورية للدفاع عن الثورة والإسهام الجدي والفعال في تشكيل وبلورة نظرة ثورية منسجمة للعالم وبناء رؤية صادقة تتسق مع أهداف الثورة وتطلعات الشعب، ولا يجري اختزالها في الأفكار السياسية وحدها بل تمتد لتشمل الموقف من المرأة وطبيعة الدولة المدنية التي يكون فيها الدين شأنا شخصيا بين الإنسان وربّه وآفاق مبدأ المساواة وتملك الثروة، وفوق كل هذا وذاك كرامة الإنسان وحريته، وحرية الإعلامي هي جزء لا يتجزأ من حرية الجماهير التي تتطلع لاستكمال الثورة بعد استردادها.دون هذا تصبح حرية الإعلام حبراً على ورق.
إعلام ضد الثورة
نشر في: 26 أكتوبر, 2011: 05:57 م