عبد الخالق كيطان واحد من الآراء العميقة التي يوردها تودوروف في كتابه: "روح الأنوار" يفيد بأهمية التفريق بين "الإثم" و"الجريمة" في القانون الذي يحكم المجتمعات. فالإثم يحيل إلى علاقة المخلوق بالخالق، بينما تحيل الجريمة إلى علاقة الفرد بالمجتمع. والفرق كبير بين المفهومين. وعندما تسود في مجتمع ما القيم غير المدنية، أو تلك التي تنظر إلى الناس بوصفهم كتلة واحدة دينياً، يصبح الإثم بمثابة القانون،
والأدهى من ذلك، إن الممسكين بالسلطة في هذه المجتمعات يكفّرون الناس ويسوقونهم إلى غياهب السجون والمقاصل لمجرد الظن بإن هؤلاء قد أخطؤوا. وفي بعض الأحيان يطلق عليهم الرصاص في الشوارع. لقد شهدنا بالفعل ممارسات من هذا النوع أيام الانفلات الطائفي، فلقد شكّلت الطوائف في العراق محاكمها وحكمت على الناس بالموت والرجم وما إلى ذلك اعتماداً على اعتقاد بأن هؤلاء مجرد آثمين.وفي المجتمعات المدنية تكون الجريمة فقط ما يحاسب عليها القانون، أما الإثم فمن اختصاص الخالق. وهنالك الكثير من الأمثلة حول هذا الموضوع: فرض نوع من اللباس تحت مسميات أخلاقية مستمدة من الدين، منع تناول أطعمة ومشروبات معينة، وما إلى ذلك من ممنوعات لا تقع في باب الجريمة بأي حال، ولكن المجتمعات التي تسيطر فيها ديانة معينة أو طائفة ما، تعمد إلى خلط الأمر بين الجريمة والإثم. ومن النظريات المعروفة في التنوير تلك التي تقول بأن طائفة واحدة في بلد ما تتحول إلى ديكتاتورية، ووجود طائفتين سيتحول إلى اقتتال داخلي، ولهذا فالسلام يعمّ عندما تتواجد أكثر من طائفة في المجتمع. إن مثل هذا الكلام، وهو يعود إلى القرن الثامن عشر على أيّ حال، يمكن تطبيقه في منطقتنا العربية اليوم، وفي العراق على وجه الخصوص. الاستبداد الذي تمارسه طائفة الأكثرية؟ ثم التقاتل الذي يجري بين طائفتين في بلد واحد، ثم التعايش بين أكثر من طائفتين. ولقد شهدنا في العراق وايران والسعودية ولبنان وسوريا والبحرين ومصر مشاكل من النوعين الأول والثاني، ونتوق بشدة للوصول إلى النوع الثالث. ويعتقد بعض المتابعين أن وجود الكرد، على سبيل المثال، في المعادلة العراقية قد يخفف من غلواء الطائفتين، مع أن الكرد يدينون بالاسلام وينتمون إلى طائفة أيضاً من الطائفتين الكبريين في العراق. وبالعودة إلى اصل الموضوع نقول: الدولة العراقية الجديدة، تلك التي تريد أن تكون مدنية ومعاصرة، عليها أن تفرق بشكل لا لبس فيه بين الإثم والجريمة. وأن تترك قضايا الإثم إلى الخالق، ويكتفي رجال الدين فيها بإضاءة ما أشكل على الناس من مساءل دينهم، أما الجريمة، فهي من اختصاص المحاكم المتخصصة حصراً. ولا يجب الخلط ابداً بين الأثنين. أمّ مشاكل العراق الحديث في هذا الخلط الذي فرضته الأحزاب الدينية الممسكة بالسلطة، فهي لن تتخلى عن برامجها الدينية التي تريد حصر الناس كلهم في بوتقتها هي، متناسية هذا التنوع الذي يخلق السلام. لا يمكن لبلاد أن تصل عتبات المدنية وهي تخلط بين الإثم والجريمة. ولا يمكن للنخب السياسية أن تبني دولة مدنية وهي تريد احتكار العلاقة مع الله من خلال طائفتها المعينة أو ديانتها. التعدد هو من يبني الدولة المدنية، وهو الضامن لعدم الوقوع في دكتاتورية الطائفة الواحدة، ولا في مشكلة التقاتل بين طائفتين.
عين :الإثم والجريمة في مجتمعنا
نشر في: 26 أكتوبر, 2011: 07:19 م