يحيى الكبيسي
مرة أخرى نكون أمام قرار للمحكمة الاتحادية يؤول المواد الدستورية بطريقة تنتهك قواعد التفسير والتأويل، وتعتمد في هذا "التأويل بالقصد" على معطيات غير صحيحة. فقد قررت المحكمة الاتحادية رد الدعوى التي أقامها صحفيون معارضون لقانون حقوق الصحفيين رقم 21 لسنة 2011 وذلك بدعوى مخالفته لأحكام الدستور العراقي، إذ ارتأت المحكمة أن القانون جاء "تجسيدا للمادة 38 من الدستور التي تحمي حرية الصحافة وغيرها من الحريات"، وأنه جاء "ملبيا لطموحات الأسرة الصحفية" وأن "هدفه توفير مناخ وبيئة مناسبة لتطوير العمل الإعلامي"!
لن نعمد إلى مناقشة القانون المثير للجدل، ولكننا سنحاول مناقشة قرار المحكمة الاتحادية، والأسباب التي استندت إليها في اتخاذه لرد الدعوى.
لقد تم رفع دعويين ضد القانون، جمعتهما المحكمة الاتحادية في دعوى واحدة، وكان المدعى عليه في الحالتين هو "رئيس مجلس النواب ـ إضافة لوظيفته" كما جاء في نص قرار المحكمة الاتحادية رقم (34/46/اتحادية/2012)، ولكننا وجدنا المحكمة تجتهد في إضافة طرف ثالث هو نقابة الصحفيين العراقيين دون أي مسوغ قانوني، فكنا أمام دعوى طريفة تتضمن طرفي الدعوى: المدعي والمدعى عليه، وطرفا ثالثا لم تحدد المحكمة وصفه القانوني مطلقا، وهي سابقة تسجل للقضاء العراقي! والمفارقة هنا أن نقيب الصحفيين العراقيين هو الذي "قدم طلبا للدخول طرفا ثالثا في الدعوى" كما جاء في نص القرار! وقد سوغت المحكمة قرارها هذا بأنه مادامت الدعوى تتعلق بحقوق الصحفيين فقد "وجدت المحكمة أن وجود نقيب الصحفيين في الدعوى أصبح مؤثرا في الحكم"! من دون أن تنتبه المحكمة الموقرة إلى أن الدعويين لم تكونا متعلقتين بحقوق الصحفيين أصلا، فالدعوى الأولى بنيت على أن القانون جاء معيبا من الناحية الشكلية والموضوعية، وسردت جملة من الملاحظات على القانون ليس من بينها ما يتعلق بحقوق الصحفيين. أما الدعوى الثانية فقد بنيت على أن حقوق الصحفيين متضمنة أصلا في قانون نقابة الصحفيين، وإلى أن القانون شرعن الكثير من القوانين الجائرة التي ما زالت سارية المفعول والتي تتعارض مع حرية الرأي والتعبير.
لقد جاء في نص قرار المحكمة، أن "القانون مر بمراحل من الإعداد والصياغة وفقا للدستور والقانون بعدما ساهمت منظمات دولية في إعداده ومنها الاتحاد الدولي للصحفيين، ومنظمة المارد [كذا والصحيح المادة] (19) ومقرها لندن واتحاد الصحفيين العرب، ومنظمة العهد الدولي لحماية الصحفيين". وهنا نحن أمام معطيات بعضها غير صحيح بالمطلق، وبعضها الآخر مضلل تماما. فبداية ليس من حجية لهذه المنظمات كي تعتمدها المحكمة الاتحادية، وثانيا نحن أمام جهات ثلاثة ذات علاقة مباشرة بالطرف الثالث إياه، ونعني به نقابة الصحفيين: فنقابة الصحفيين العراقيين هي ممثل العراق في الاتحاد الدولي للصحفيين، بل إن نقيب الصحفيين العراقيين هو أحد أعضاء اللجنة التنفيذية لهذا الاتحاد! واتحاد الصحفيين العرب هو اتحاد يضم نقابات الصحفيين العرب، وبضمنها نقابة الصحفيين العراقيين! أما منظمة العهد الدولي لحماية الصحفيين فهي منظمة حديثة أنشئت في العام 2007 وكانت نقابة الصحفيين العراقيين عضوا مؤسسا فيها! فكيف سوغت المحكمة لنفسها اعتماد الاستشهاد بجهات ذات علاقة بأحد أطراف القضية، وهو النقابة، في تسويغ القانون؟ ثم إن المعطيات المتوفرة لدينا تكشف أن لا أحد من هذه الجهات الثلاثة قد ساهم فعلا في "الإعداد والصياغة" كما جاء في قرار المحكمة. ونجد من المهم هنا أن نذكر أن الصحفي إبراهيم نافع هو رئيس اتحاد الصحفيين العرب، وأن الصحفي مكرم محمد أحمد هو أمينه العام، وكلاهما كانا قادة جوقة إعلاميي نظام الرئيس حسني مبارك، أي أن المحكمة الاتحادية تريدنا أن نصدق أن ما يقوله هؤلاء سيكون معيارا لحرية الرأي والتعبير!
أما بالنسبة لمنظمة المادة 19 التي استشهدت بها المحكمة الاتحادية فقد كان لها رأي مغاير تماما لما تقوله المحكمة الاتحادية، فقد أصدرت المنظمة تقريرا مطولا ناقشت فيه مواد مشروع القانون ووجدت أن "الاختصار والتركيز الضيق لمسودة القانون بحماية الصحفيين تحجب حقيقة أن ما حققته الكثير، بل غالبية البنود الأساسية هو العكس تماما، قيود جوهرية على حرية التعبير الصحفية وحقوق الإنسان الأخرى في العراق في وقت هو أشد ما يكون بحاجة لتعزيزها"، ومن ثم رأت المنظمة "أن هذه القيود على حرية التعبير الصحفية وحقوق الإنسان الأخرى هي انتهاك صريح لالتزامات العراق القانونية الدولية". وقد شرح التقرير ما أسماه "العيوب الجوهرية" في هذا القانون. وهذه ليست المرة الأولى التي تقدم فيها المحكمة الاتحادية مسوغات حكم غير صحيحة، ففي قرارها المتعلق بالهيئات المستقلة الثاني الصادر في العام 2010 (والذي جاء مناقضا للقرار الأول بشأن الهيئات المستقلة الصادر في العام 2006!) سوغت المحكمة قرارها بضرورة تبعية الهيئات المستقلة للسلطة التنفيذية بالقول بان فكرة الهيئات المستقلة التي جاء بها الدستور العراقي " لا تتفق مع ما هو جارٍ العمل عليه في برلمانات العالم"، وهو أمرغير دقيق. فالفصل التاسع/المادة 181 من دستور جنوب أفريقيا 1996 والمعنون "Establishment and governing principles" ينشئ سبع مؤسسات "مستقلة" تعمل على "تعزيز الديمقراطية الدستورية"، من بينها: لجنة جنوب أفريقيا لحقوق الإنسان، المراجع العامة ، اللجنة الانتخابية. وهي لا تخضع إلا للدستور والقانون، ولا يجوز لأي شخص أو جهاز من أجهزة الدولة التدخل في سير عملها، وهي مسؤولة أمام الجمعية الوطنية حصرا. ويتحدث الدستور الهندي 1950 عن ثلاث هيئات مستقلة حامية للدستور، من بينها: هيئة الانتخابات، وهيئة المراقبة والمحاسبة العامة. ولجنة الانتخابات الهندية وهي كلها هيئات غير "مسؤولة من السلطة التشريعية أو التنفيذية، وهي لا تستمد صلاحياتها من أي من السلطتين أيضا، بل تستمدها من الدستور نفسه، وليس هناك أي سلطة قانونية أعلى منها، بل إنها تملك وظائف شبه قضائية في ما يتعلق بالانتخابات.
المسألة الثانية التي سنقف عندها هي ما جاء في قرار المحكمة الاتحادية من أن "مبدأ الحصول على المعلومات والاحتفاظ بسريتها هي من المبادئ التي يقوم عليها النظام الديمقراطي؛ فالقانون المنوه عنه إذن لا يحمي الصحفيين فقط، وإنما يحمي المجتمع ككل وان إيراده تعبير القانون يعني كل قانون صادر أو يصدر ويعنى بشؤون الصحافة والصحفيين". أي أن المحكمة الاتحادية وجدت أن ما جاء في المادة 6 / أولا من القانون تحقق ما أسماه القرار "مبدأ حرية الوصول إلى المعلومات"، وهذا غير صحيح بالمطلق! فبداية يجب أن تلتزم المحكمة الاتحادية بالمصطلحات الدقيقة المستخدمة في هذا المجال وهي حق الحصول على المعلومات the right to obtain information، أو حرية المعلومات freedom of information. وكان تعريف الجمعية العامة للأمم المتحدة في القرار رقم 59 لسنة 1946 قد جعل حرية المعلومات الأساس لجميع الحريات التي أقرها المجتمع الدولي، يقول التعريف: "إن حرية المعلومات حق أساسي للإنسان وهي المحك لجميع الحريات التي تنادي بها الأمم المتحدة". فالمادة 6/ أولا من القانون تفرغ هذا الحق من محتواه عندما تقرر أن "للصحفي حق الاطلاع على التقارير والمعلومات والبيانات الرسمية وعلى الجهة المعنية تمكينه من الاطلاع عليها والاستفادة منها ما لم يكن إفشاؤها يشكل ضررا بالنظام العام ويخالف أحكام القانون". أي أن القانون لا يحدد بشكل واضح وصارم طبيعة المعلومات المحظورة، ولا الإجراءات التي يمكن للصحفي اللجوء إليها في حال رفض الجهات المعنية إطلاعه على هذه المعلومات. على سبيل المثال يقرر المبدأ رقم 11 المتعلق بالقيود على حرية المعلومات في إعلان جوهانسبرغ للأمن القومي وحرية الوصول للمعلومات 1995 وتحت عنوان القاعدة العامة بشأن الوصول إلى المعلومات بأن " لكل فرد الحق في الحصول على معلومات من السلطات العامة، بما في ذلك معلومات تتعلق بالأمن القومي. ولا يجوز فرض أي قيود على هذا الحق على أساس الأمن القومي ما لم تستطع الحكومة إثبات أن هذا التقييد هو مشروع بموجب القانون وضروري في مجتمع ديمقراطي لحماية المصالح المشروعة للأمن القومي". كما يقرر المبدأ 13 الخاص بالمصلحة العامة في الكشف عن المعلومات بأنه "في القوانين والقرارات التي تتعلق بحق الحصول على المعلومات كافة، يجب أن تكون المصلحة العامة في معرفة المعلومات موضع الاهتمام الرئيس". ولنقارن هذه الآليات بما أقره القانون الفيدرالي الأميركي لحرية المعلومات (FOIA) الذي ينص على أن "لكل فرد الحق في طلب الوصول إلى سجلات الوكالة الفيدرالية، فيما عدا حدود السجلات المحمية من الكشف". ويحدد القانون تسعة استثناءات يجب تفسيرها بصورة "ضيقة" بموجب القانون، وتستند إلى إرشاد صادر من وزارة العدل. ومن المهم الانتباه إلى أن هذه الاستثناءات ليست إلزامية. إذ يمكن للوكالات الرسمية أن تطلق سجلات في حال استنتجت أن المصلحة العامة في الإفصاح عن محتوياتها تتفوق على احتمال إلحاق أي ضرر. كما قلنا لم يكن غرضنا هنا مناقشة قانون حقوق الصحفيين، ولكننا أردنا مناقشة قرار المحكمة الاتحادية بشأنه، من أجل تكريس فكرة أن قرارات المحكمة الاتحادية إنما تأتي في سياق سياسي يحاول إعادة تأويل بعض المواد الدستورية التي جاءت في غفلة من أيدي صانعيها، من أجل تفريغها من محتواها.