يوسف العانيعرفت أحمد حمروش ليس اليوم.. ولا قبل عام أو عشرة أعوام.. أو عشرين أو ....، بل قبل (54) عاماً، في دمشق مع فرقة المسرح القومي المصرية وكان مديرها آنذاك.. وقبل هذا المنصب كان أحد ضباط الثورة مع الرئيس جمال عبد الناصر..
ليشغل بعد ذلك مناصب لم تعذله عن كونه ضابطاً في الجيش بل اقتربت به من خلال كفاءته وثقافته من مواقع الصحافة والإعلام والفن وفي مقدمته (المسرح) ليكون مديراً للفرقة القومية أو المسرح القومي كما كان يسمى.. ثم ليتولى رئاسة تحرير أكبر مجلة آنذاك هي – روز اليوسف- وليظل ومنذ سنوات مسؤولاً عن منظمة التضامن الافرو-آسيوي لا أزيد...لكن أحمد حمروش بالنسبة لي صديق العمر وأنموذج للرجال البواسل في دربه الطويل.. فهو حين أكون في القاهرة لا يمر يوم إلا ونكون معاً ولو عبر الهاتف .. و ..لا أريد أن أقول إن كل ما في قلبي عبر كلماتي المتواضعة بحق الإنسان الذي تحدثت معه قبل شهر.. كنت أقلب أوراقا أحتفظ بها.. لأجد رقم هاتفه في الإسكندرية، فهو يسكن الآن وحيدا هناك بعد وفاة رفيقة عمره زوجته الكريمة. صرخ حين سمع صوتي. قال: أنت في مصر يا يوسف ولا أدري.. قلت: لا.. قال: تعال لمصر وسوف آخذك إلى الإسكندرية.. المهم كيف صحتك.. وكيف العراق الشقيق.. أريد أن أسمع أخباره منك فقد تعودت ذلك منك حين نلتقي.. وكيف مسرحكم العظيم.. مسرحكم – المجنون العاقل – تعال وحدثني طويلا..وانقطع الخط ولم أستطع رغم محاولاتي أن أحصّله..! البارحة.. الأربعاء 9 تشرين الثاني.. حاولت أن أكلمه عبر الهاتف لأهنئه بالعيد ونكمل حديثنا السابق.. رنّ الجرس.. ولم يرد أحد عليّ.. حاولت أكثر من مرة ليس غير الجرس وحده..يئست..!بعد الظهر كنت أجلس أمام التلفزيون أقرأ ما يكتب على شاشته من أخبار.. فجأة ارتسمت أمامي جملة طويلة لم ألتقط منها سوى: (الكاتب الكبير أحمد حمروش.. فارق الحياة...) صرخت عدة صرخات وبدأت أبكي.. وأبكي.. ثم سكت بحزني العميق.. أستذكر أحلى أيامنا.. لأخرج أول كتاب صدر لي في القاهرة –بين المسرح والسينما- عام 1967- وقد كتب مقدمة الكتاب (أحمد حمروش)، وا وا ستعيد أحداثاً وأحاديث بيننا عن قرب أو بعد.. وأقلب كتابي (شؤون وشجون مسرحية) الصادر عام 1989- وكان مقال (الجنون العاقل) منشورا على ص (12) منه، وهو المقال الذي طلب مني إعادة نشره حين تحدثت معه آخر مرة.. وها أنا أحقق رغبته فأنشره.. لكن (أحمد حمروش) لن يستطيع قراءته الآن.. فقد فارق الحياة.. .. رحمة الله عليه 9/11/2011rnالجنون العاقل !!مسرحكم مسرح مجنون..!نعم. هكذا قال الكاتب المصري المعروف أحمد حمروش قالها في حالات ثلاث وبمناسبات ثلاث وفي المرة الأولى والثانية كان أحمد حمروش يشغل منصب (المدير للفرقة القومية للتمثيل في القاهرة) وفي المرة الثالثة كان رئيسا لتحرير مجلة روز اليوسف. في كل الأحوال بالنسبة لنا كمسرحيين عراقيين وبالنسبة لمسرحنا العراقي كان هذا القول له دلالته وله حكاية وبين الدلالة والحكاية (حقيقة) تاريخية لا بدّ من تناولها من خلال هذا الحديث. ففي بداية الخمسينات وبعد تجميع الرغبات المخلصة في أن يظل المسرح العراقي مرتبطاً بالناس ومعبراً عن آمالهم وطموحاتهم، ومنتزعا من واقعه الحياتي واليومي – من جهة- ومساهماً في رفع المستوى الفني من جهة أخرى، عمدنا إلى أن تكون العروض المسرحية ذات سبيلين: الأول مسرحية شعبية قريبة من الناس ومعبرة كما قلت عن مشاكلهم وقضاياهم الحياتية فهي بهذا تشبع حاجة عندهم، وتكون بقدر أو بآخر محفزناً على تعميق الإحساس بالمشكلة المطروحة أو الصور التي ترتسم أمامهم من خلال المسرح وتكون في ذات الوقت عامل جذب للعرض المسرحي كذلك.. الثاني – مسرحية- من الأدب العالمي، سواء كانت مترجمة أم معدة وتكون عادة بالفصحى ونحاول فيها أن نقدم نموذجاً آخر سواء في المضمون أم الشكل، مقربين مثل هذه النماذج إلى المشاهد العراقي الذي لم يألف هذا النوع من العروض، مستعينين بكل الكفاءات المتوفرة آنذاك سواء في مجال الفن التشكيلي والموسيقي والعناصر المثقفة التي تستطيع معاونتنا على توفير المادة الثقافية المتمّمة والمكملة للعملية الفنية الإبداعية التي نطمح إليها. كانت إحدى هذه المحاولات تقديم مسرحية (أغنية التم) لتشيخوف في 9/2/1956، إخراج إبراهيم جلال، وتقديم فرقة المسرح الحديث ومعها المسرحية العراقية (ست دراهم) التي كتبتها آنذاك وأخرجها كذلك الأستاذ إبراهيم جلال.. حين قلت لأحمد حمروش في أول لقاء معه عام 1958 إننا قدمنا (أغنية التم) قال فورا.. أنتم مجانين!!فتكلمت وقلت له صحيح نحن مجانين.. لكننا نسمي هذا الجنون بـ (الجنون العاقل) وضحك هو..! لكنه ظل على استغرابه من جرأتنا. إذ تعرض مسرحية يمثلها ممثل رئيسي واحد وكان الممثل سامي عبد الحميد، ويعاونه ممثل ثان يقوم بدور الملقن لا يتكلم لكنه يعبر عن ردود فعله فقط.. وقد قمت أنا بهذا الدور... حمروش كان مستغربا كيف يستطيع جمهور لم يتعود بعد على عروض جادة كهذه أن (يصبر) ليشاهد مثل هذا العرض الخالي من الفعل الخارجي والحدث الذي لا بد من أن يثيره..!قلت لقد
قبل أن يفارقنا أحمد حمروش.. سألني: كيف العراق وكيف مسرح العراق؟
نشر في: 15 نوفمبر, 2011: 06:35 م