TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > تلويحة المدى: ذبائح الأضحى: أصل (العَلّوش) التونسي

تلويحة المدى: ذبائح الأضحى: أصل (العَلّوش) التونسي

نشر في: 11 نوفمبر, 2011: 07:17 م

 شاكر لعيبيخَلَتْ صباح عيد الأضحى الشوارع في تونس كلها. وبعد قليل تصاعدت روائح الشواء في كل مكان. هذه الرائحة النفّاذة التي لعل خياشيم غرينوي بطل رواية "العطر"، لم تعرف تفاصيلها الدقيقة وكثافتها وامتدادها اللامتناهي في يوم كهذا. التقليد التونسي يستوجب أن تذبح كل عائلة، فقيرة أو غنية، أضحية أو أكثر صبيحة هذا اليوم. وأحسب أن تونس وحدها تذبح أكثر من مليون خروف في عيد الأضحى، وهو رقم كبير في بلد يبلغ تعداد سكانه عشرة ملايين نسمة.
في اللهجة التونسية (العلُّوش) بالفتح وبالتشديد هو الخروف، وأصلها في الغالب عربي أو ساميّ،  ففي معاجم اللغة يجيء أنه حيوان على كل حال: العِلَّوْشُ، بالكسر والتشديد كسِنَّوْرٍ: ابنُ آوَى، والذِّئْبُ، ودُوَيبَّةٌ، وضَرْبٌ من السِّبَاعِ، والخفيفُ الحريصُ، مشتق من العَلَشِ، وفي اللسان العلوش هو الذئب من أصل حميري. هل نثق كثيرا بأن الكلمة لها صلة بالذئب، فأين هذا من ذاك؟. لعل مقاربتها مع كلمة أخرى ستدلّ على أن أصل الشين في علوش ليست سوى سينٍ تغيّرت بالنطق، فالكلمة الأصلية قد تكون علوّس: أي الذي يقوم بالعلس، والفعل الأخير هو العَلْسُ: ما يُؤْكَلُ ويُشربُ، والشُّرْبُ، وقد عَلَسَ يَعْلِسُ. وما عَلَسْنَا عَلوساً: ما ذُقْنَا شيئاً. وما أكَلْتُ عُلاساً: طعاماً. وفي المحكية العراقية يستخدم الفعل لعملية المضغ عند الحيوانات. وهو قريب جداً مما يذكره لسان العرب: وعَلَسَتِ الإِبلُ تَعْلِس إِذا أَصابت شيئاً تأْكله. وفي المحكية العراقية يستخدم الفعل مجازيا لمن يمضغ كلامه مضغا ويتقطع بالتلفظ بطريقة رديئة كثقيل اللسان عادةً أو مرضاً، فيقال: يْعَلّسْ بكلامه.إن صيغة علوش بالتشديد، فعّول، مع إضافة سين في نهاية الكلمة موجودة في كلمة تونسية أخرى هي القطّوس أي القط. وهو ما قد يبرهن لنا أن أصل الشين في علوش كان سينا بالأصل. ولعل هذه الصيغة هي مما رشح من القرطاجنية أو البونيقية في المحكية التونسية، أو أن القرطاجنية قد تأثرت بصيغة التصغير اللاتينية المعروفة للمذكر (ellus). وهذا يحتاج إلى تدقيق من طرف متخصص باللغات القديمة. لكن كلمة قط العربية ذات قرابة بالمفردة الأوربية (cat). وهو أمر يحتاج بدوره إلى تفسير. لأن المفردة اللاتينية كاتوس (catus وأيضاً cattus, catta) = قطوس هو نوع الهريات، الهرر، القطط (Felis catus). ويبدو أن العربية قد أخذتها كما هي من هنا بالضبط، لكنها حذفت الحرفين (US)، بينما أبقتها المحكية التونسية تأثرا بالقرطاجنية غالباً، المتأثرة باليونانية أو الإغريقية.يذهب البعض إلى أن علوش التي تعني في القاموس الذئب، ابن آوى كما ذكرنا، إنما تُنسب لـ (علي) للتحبّب والدلال، مثل الاسمين علّو وحمّو، وربما جدّو. وهذا التفسير لا يهتم طبعا بالـ (ellus) في نهاية الكلمة، لكنه لا ينظر أيضاً إلى استخدامها التونسي، بمعنى الخروف، وإنما يفسِّر فحسب أسماء العائلات المشرقية العريقة في بلاد الشام التي تحمل لقب علوش. إذا كان الاستخدام التونسي يَنْسبُ فعلاً العلوش – الخروف لعلي فإننا أمام تأويل بعيد، يعني أن تحوّل تونس الفاطمية العلوية إلى المذهب المالكي قد ترافق مع تشويه متعمّد لجميع الرموز الفاطمية المقدّسة. فصار الذئب خروفاً، نكاية بسقوط الدولة الفاطمية. هناك براهين دامغة في تونس المعاصرة عن تحويل متعمّد لاحق لطقوس الفاطميين إلى ما يُفْرِغُ معناها الفاطمي العقائدي، منها تقاليد (الحضرة) الغنائية وعاشوراء الحاليتين اللتين قُلب معناهما حرفياً في التقاليد التونسية المعاصرة. لو كان هذا التحويل صحيحاً فإننا أمام أنثروبولوجيا لغوية بالغة الرهافة والغموض.يبقى احتمال آخر لا يتوجب استبعاده هو أن أصل العلوش يقع في تغيير العين حاءً والسين شيناً: حلوّس. ففي المعاجم أن الحَلْساءُ من المَعَزِ هي التي بين السواد والخُضْرَة لون بطنها كلون ظهرها. والأَحْلَسُ الذي لونه بين السواد والحمرة، وأُمُّ حِلْسٍ: الأَتانُ.إذا ما تعلق الأمر بعلوّس أو حلوّس فإن رائحة شواء العلوش ما زالت نفاذة تملأ فضاء العالم العربي في عيد الأضحى، بانتظار غرينوي آخر يمكنه تقديم وصف دقيق لطبيعتها الكثيفة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram