علاء خالد غزالة من المؤسف أن يستمر ذكر العراق في صدارة الدول التي تعاني الفساد الإداري سنة تلو الأخرى. ولكن الأمر الأكثـر إيلاماً هو أن ترى مسؤولي الدولة في حالة نكران كامل لهذه القضية المهمة، إن لم تكن الأهم في الوقت الراهن. بل أنهم نادراً ما يتناولون موضوعة الفساد الإداري في إطار الحلول المطروحة أو أن يشرحوا لنا خطتهم في التصدي لتلك الظاهرة الخطيرة.
يتحدث بعض الناس، عند تناولهم موقف الحكومة الرسمي من الفساد الإداري، عن أمور مثل السماح لبعض المسؤولين بتفشي الفساد عمدا بين داوئرهم من اجل التغطية على ممارساتهم الفاسدة هم أنفسهم. بينما يقول آخرون: إن الفساد يخدم بعض الأحزاب المتنفذة لغرض الإبقاء عليها في السلطة من خلال التمويل المنتظم الذي ما كانوا ليحصلوا عليه من طريق آخر.لكن الظاهر أن هذه الآراء، وإن حملت بعض الأجوبة، لا تستطيع أن تقدم تفسيرا شاملا لاستشراء الفساد الإداري بما يتجاوز المعدل المتعارف عليه في دول فقيرة ومتخلفة قياسا بالعراق. وهي أيضا لا توضح تخاذل الحكومة، المكونة من أحزاب متصارعة دأبت على إظهار مواطن العيب لدى بعضها البعض الآخر. لهذا فلابد من وجود أسباب أكثر عمقا جعلت من هذه القضية عسيرة على الحل إلى هذه الدرجة. وربما يكون أهم هذه الأسباب هو كون هذه الظاهرة موروثة من النظام السابق، الذي سقط إثر الغزو الأميركي عام 2003. فقد عملت أجهزة ذلك النظام على رعاية الفساد الإداري بشكل ممنهج، بسبب عجز الدولة عن توفير ابسط سبل العيش لموظفيها. فقد كان معدل دخل الموظف العادي الشهري، على سبيل المثال، لا يكفي لسد نفقات نقله إلى دائرته أو مدرسته أو ما سواهما. واذكر أن نائبا في مجلس العموم البريطاني زار العراق إبّان فترة الحصار الاقتصادي الذي فرضته الأمم المتحدة على العراق، وتحدث في مؤتمر صحفي من مستشفى، مشيدا بالأطباء العراقيين الذين قبلوا أن يعملوا في مستشفياتهم براتب لا يزيد على "ثمن بيضة في اليوم الواحد". ومن الواضح أن مثل هذا الأجر لا يقيم أودا ولا يسد رمقا. ولم يكن لدى الأطباء العراقيين من سبيل سوى العمل في المستشفيات حسب قانون التدرج الطبي، ولكنهم وجدوا موردا آخر للعيش من خلال العيادات الخاصة. أما غيرهم من الموظفين فإنهم قلما أتيح لهم العمل في القطاع الخاص، الذي عانى هو الآخر من مشاكله الخاصة نتيجة الحصار الاقتصادي.وهكذا لجأ الكثير من الموظفين إلى ممارسات تندرج تحت مسمى الفساد الإداري، وإن لم يعدها جميع الشعب كذلك. مثال ذلك دفع مبالغ مالية، قد لا تكون كبيرة، من اجل تجاوز الدور، أو استحصال موافقات روتينية لغرض تمشية المعاملات التي، ما عدا ذلك، ليس هناك من داع لإيقافها. وتطور الأمر إلى زيادة التعقيدات الإدارية والروتينية لحمل المزيد من الناس على الدفع وتخليص معاملاتهم. وإذا لم يكن هناك ضرر مباشر على المصلحة العامة نتيجة لهذه الممارسات، فان ضررها المتراكم كان اكبر من كل قضايا الفساد المألوفة، مثل الاختلاس والرشوة والمحسوبية. لقد أدى شيوع ثقافة تجاوز الروتين الحكومي عن طريق دفع الأموال للموظفين العموميين إلى شرعنة هذه الممارسة حتى بات من الصعب إقناع كل من طرفي المعاملة، المواطن والموظف، إنها خطيئة كبيرة. فكم مرة سمعت، عزيزي القارئ، عن ممارسات مثل استحصال إجازة قيادة بدون حتى الذهاب إلى دائرة المرور؟ ومثلها لحالات جواز السفر؟ أنا واثق من أن لديكم الكثير من الأمثلة التي تغني عن المزيد من الإيضاح.إن شيوع هذه الثقافة قد انعكس على النظام الجديد بكامل صورته، وان تغيرت الأحوال. نعم، لم يعد الموظف بحاجة إلى "الإكرامية"، بعد أن تحسنت أحوال معظم الموظفين المالية. ولكن الكثير من الموظفين كانوا في الخدمة قبل التغيير واستمروا بعده. وإذا كان هناك أمر (شرعي) تحت ظرف ما، فسيبقى شرعيا تحت كل الظروف. لان المبدأ الأساس في الأخلاق هو أنها غير نسبية. فالسرقة سرقة سواء أنفقتها على الموبقات أو لغرض إطعام الفقراء. وانه لمن دواعي الأسف الشديد أن معظم الناس يتفقون على أن الرشوة أمر خاطئ وحرام لكن الكثير منهم لا يتوانى عن دفعها من اجل الحصول على غايتهم بشكل ميسر. وهم يتفقون على تحريم السرقة والغصب وأكل مال الغير، ولكنهم لا يجدون أن الرشوة هي فعل يضم هذه الأمور الشنيعة اجمعها. لذلك إن أردنا أن نتصدى إلى الفساد الإداري يجب علينا أن نبدأ من القاعدة: من صغار الموظفين وعامة الشعب. طبعا نحن ندرك وجود جهات متخصصة بهذا الشأن مثل هيئة النزاهة، ودوائر المفتش العام في الوزارات وديوان الرقابة المالية، وحتى منظمات المجتمع المدني. لكن الممارسات الصغيرة لا تصل في العادة إلى تلك الجهات. وحتى إن وصلت فلربما لا تجد اهتماما كافيا لكون تلك الجهات مشغولة بقضايا فساد اكبر. وبالتالي فان استمرار هذه الممارسة يعني ترسخها واستشراءها أكثر فأكثر.إن ما ندعو إليه هو حملة منسقة، لا تقودها مؤسسات الحكومة أو البرلمان، بل يقودها المواطنون أنفسهم. تلك الحملة تشرح للناس أن تقديم الإكرامية هي عملية سرقة بشكل أو آخر، وهي غصب لحق شخص آخر، وهي بكل تأكيد أمر شنيع لا يقل عن الفساد في عقود الكهرباء أو النفط أو السلاح. فالأمر الخاطئ لا يكون صحيحا إذا كانت قيمته اقل من دينار أو ألف أو مليون مثلا. هذه الحملة يجدر أن تروج ب
دعوة للقضاء على الفساد الإداري من خلال الـ(نيو ميديا)
نشر في: 2 نوفمبر, 2011: 06:22 م