علي عبيد
من العيوب الاجتماعية التي تشبَّع بها مجتمعنا العراقي، مدح القائد، المسؤول، المدير، شيخ العشيرة، الأب، وهكذا الأمر مع كل من يتواجد على قمة الهرم، حتى لو كان هذا الشخص المتصدر، لا يستحق المدح، كأن يكون غير منصف أو ظالماً أو تلتصق به عيوب أخلاقية لا تليق بالإنسان العادي، فكيف بالمسؤول الذي يقود دولة أو وزارة أو مؤسسة أو دائرة أو مدرسة أو عائلة؟ وسبب المدح واضح جدا، إذ يأمل المادح بالفوز بمنفعة أو مصلحة يمكن للمسؤول أن يقدمها له خارج الضوابط والاستحقاق والأفضلية.
هذا المرض المستعصي موجود لدى كلا الطرفين، أعني بهما المادح والممدوح، وقد انتقلت هذه النقيصة إلى الوسط الثقافي، بل صارت مؤشرا واضحا معلنا لا يخشاه احد، ولا يتحرج منه احد، بل لا يتعب نفسه قليلا لكي يخفيه أو يقلل من فداحته، ولعلَّ المرارة في أعلى درجاتها تكمن في الممدوح حين نراه يسترخي ويتورد وجهه وتشع الابتسامة والرضا على محيّاه كله، وهو يستمع لمدح المادح، وكثير من هؤلاء الممدوحين يعرفون حق المعرفة أن المادح كذاب مصلحي منفعي في نفسه غاية واضحة، ومع ذلك يصدّ الممدوح جميع المادحين، ويكرمهم ويتفاعل معهم ويشجعهم فعلا وقولا، لكي يستمر مدح المادح، وتستمر نفس الممدوح بحالة الاسترخاء والتمجيد الذاتي!!.
ليس في قولي جديد بطبيعة الحال، ولا أنا مبتئس مما أتابعه اليوم من مدح مجاني يكيله هذا أو ذاك من المحسوبين على المثقفين لمدير هذه الدائرة أو وزير تلك الوزارة، بل بلغ الأمر بفنان (كنا نحترمه ونطلق عليه أسماء وعناوين جيدة) أن ينحني لنائب رئيس إحدى المنظمات الثقافية ويقبّل يده، في فعلة نكراء ذليلة، لم يكن مجبرا عليها أبدا، والكارثة الأكبر أن هناك من كتب وصرَح وأعلن، أن ما قام به الفنان المثقف الفلاني مثال لتواضع المبدعين الكبار، والألم كله يكمن في نشر هذه الصورة المذلة في الفيس بوك ووسائل إعلام أخرى.
تُرى ماذا يريد هذا الفنان المثقف الذي تاخم عمره السبعين، من فرد هو نفسه لم يقدم لنفسه ما يسعفها من الجفاف الإداري وسواه؟ حتما انه وقع تحت هاجس المنفعة الزائفة، وتخلى عن قامته التي كان يجب أن لا تنحني لأحد تحت أي مبرر كان.
مثقفونا المداحون كثيرون، والممدوحون موجودون أيضا، هؤلاء بعضهم يكمل بعضاً، في تشابك مصالح مادية ومنفعية نفسية وملموسة، وحين تقول لهم أن زمن المدح ولّى ولا يجوز لهذا المرض الموروث أن يستمر ويستفحل مرة أخرى، تجد لديهم آلاف التبريرات والتسويغات، ليس المادح صاحب الحاجة فقط، بل الممدوح أيضا يهب ليربت على ظهر المادح ويشجعه حتى يستمر بالخطأ البيّن.
لا أجدني مغاليا قط، حين أتحدث بهذا الوضوح وهذه الصراحة الشديدة، فالمثقف المادح يتناهى بيننا دونما خجل أو تردد أو إحراج، والممدوح يسند ظهره ورأسه إلى الكرسي الملكي الوثير وهو يستمتع بتفاعل واضح مع المداحين.
أظن أننا بحاجة إلى تشريع قانوني وناموس أخلاقي وعرفي، يمنع المدح بعد الآن لكائن من يكون وأعني القادة والرؤساء والمدراء، على أن تتم محاسبة المادح والممدوح معا، مثلما يحاسب القانون الآن الراشي والمرتشي، ويجب أن تملأ منظماتنا الثقافية منذ الآن يافطات وبوسترات و أوراقاً، نرسم ونكتب عليها (لا للمثقف المادح، لا للمثقف الممدوح) لكي يتعلم منا المجتمع العراقي عموما.
كل ما قلته أعلاه يصب في بناء الشخصية الفردية القوية الشجاعة الفاعلة المنتجة، التي يحتاج العراق إليها لبناء دولة مؤسساتية، وثقافة ناصعة، هل سنتحرك بهذا الاتجاه، أضع هذه الكلمات أولاً بين أيدي القادة ،الرؤساء ،المدراء، ثم أضعها أمام المثقفين الآخرين، عسى أن ننجح في القضاء على ظاهرة المثقف مادحاً وممدوحاً.
المثقف مادحاً وممدوحاً
[post-views]
نشر في: 12 أكتوبر, 2012: 05:00 م