شاكر لعيبيمنذ ثماني سنوات وأنا أقيم في جنوب تونس، وأتردد على العاصمة بشكل متواتر، واعتبرها بلداً حميماً ثانياً له مكانة عظيمة في قلبي. وقد وجدتُ فيها ما يُفرح وما يُكدّر مثل جميع بلداننا العربية. شهدتُ بعضا من سنوات قمع ابن علي فيها وحضرتُ أيام "ثورتها".
كان انطباعي قبل الإقامة الدائمة فيها أنها بلد سياحي عن جدارة، يمتلك غالبية سكانه ثقافة رفيعة، مغموسة بالفرانكفونية، وأن مشكلاتها تختلف عن مشاكل الأقطار العربية الأخرى. هذه الصورة الزاهية، هذه البطاقة البريدية الملونة هي التي تقدَّم عادة للجمهور العريض خارج البلاد، من طرف الدولة كما من قبل جُلّ التونسيين على مختلف مشاربهم، ولأسباب مختلفة، ففي حالة الدولة توفّر هذه البطاقة البريدية ما يقارب الـ 1.39 مليار دينار تونسي سنويا من إيرادات السياحة، وما يعدل ثلاثة بالمئة من الدخل القومي من مبيعات الصناعات الشعبية التونسية المرتبطة عضوياً بالسياحة، أما من طرف الجمهور فأنها تقدمهم جميعا تقريباً، مدنييهم وفلاحيهم، بهيئة مزدهرة مدعاة للاحترام. لا أحد سيمتلك المصلحة بأن يخدش هذه الصورة طالما أنها تقدّم فائدة كبيرة واضحة للجميع. لكن تونس ليست بطاقة بريدية كما يريد المسوِّقون الرسميون والشعبيون، ولا تنطق كلها باللغة الفرنسية اليوم. إنها من لحم ودم وذات ثقافة مقيمة كذلك في العلاقات الفلاحيّة، وأقل منها القبلية والجهوية (المناطقية). وإن تناقضاتها بين مجتمع علماني سعت البورقيبية وما تبقى منها إلى ترسيخه، ومجتمع متشبع بقيم العائلة والميتافيزيقيا والعروش. القبائل ظلت حتى يوم سقوط نظام ابن علي مطمورة ومتجاورة بالقوة، أو بالتراضي والتسامح اللذين يَسِمَان بالمجتمع التونسي. الرجل المقيم الذي عاش في الجنوب التونسي، مثلي هجس وعرف منذ وقت مبكر مفارَقة كبيرة بين الواقع الفعلي وخطاب الصورة السياحية الزائف، ثم خطاب نخب العاصمة التي يجهل بعضها "جغرافيا البلاد الحقيقية". وقد كنت أود صياغة العبارة على شاكلة: "الجغرافيا الحقيقية للبلاد" لأنها تثير لبساً اقل، لكنها، بالمناسبة، لن ترضي المنصف الوهايبي حسب مقالة كتبها عن تلك الصياغة اللغوية، وأجدها سويّة ودقيقة.فجَّر انتخاب حركة النهضة قسماً من تلك التناقضات العويصة. فمن مديح عالي الصوت من طرف الجميع لعظمة الشعب التونسي الذي قدّم بالفعل مثالا باهراً للعالم، إلى تلميحات وتصريحات من بعض نخب العاصمة لـ "تخلُّفه" عندما انتخب خاصةً حركة النهضة. في حوار لي مع صديق تونسي قال لي إن: "(الشّعب) تعبير مجازي و تضليلي كلّ منا يستعمله لأغراضه، لأن "الهبّة الثّوريّة" التونسية هي عبارة عن تساو في درجة الاحتقان بين النّاس على اختلافهم". وهو ما يستوجب، حسب رأيه، "أنّ ينزل الخطاب الحداثي بقوّة الآن إلى سجال الشارع." وقد تناسى أن حداثة بعض النخب ليست سوى حداثة تلفيقية. تلفيقية مُحْكَمَة دامت زمنا طويلاً باسم منجزات مدنية جوهرية لا شك في ذلك، لكنها كانت سبباً من أسباب فوز حركة النهضة. مثلها مثل وَهْم اختصار البلاد التونسية كلها بالعاصمة تونس لا غير (كما اعتقد كثيرون أن مصر هي القاهرة وان العراق هو بغداد) من طرف نخب العواصم المعنية، وهم يطلقون المناظرات الساخنة في مقاهي شارع الحبيب بورقيبة السياحي وأحياء العاصمة الراقية والمتوسطة. هناك أمثلة صارخة على الوهم الجارف، منها أن بعض مُنظّري وقادة الأحزاب المعنية بالبيئة لا يعرف الكثير من معطيات الواقع الموضوعي على الأرض، كالكارثة الإنسانية المطبقة التي يسببها مصنع الفوسفات في ولاية قابس، حتى أن المرء يستطيع ببعض المجازفة والطرفة أن يعتقد أن الخطاب البيئي ليس سوى نمط من أنماط الترف الثقافوي لدى البعض، وليس سوى خطاب متعالٍ مستعار من منظّري العناية بالبيئة الأوروبيين.عندما تكون أحزاب البيئة نسخاً باردا لأحزاب عالمية عريقة، فمن المتوقع أن تفوز الأحزاب السلفية، وعندما تتصرّف بعض أحزاب اليسار بنوع من الترف الفكري مسبق الصنع فمن الأكيد أن يحدث الفوز. وعندما تكون الأحزاب البعثية التونسية متعصّبة إلى درجة لا تُطاق، ولا ترى ما يحدث في سوريا وما حدث في العراق، فمن الأكيد أن تفوز حركة النهضة عينها. وعندما تتحدث النهضة عن تكييف "الحداثة" لصالحها فأن في ذلك إشارة إلى عدم توطُّن "الحداثة" لدى النخب الحديثة، أو تشبثها بمفهوم شكلاني للحداثة: أي ارتباطها بالتحديث التقني فحسب، كما تريد النهضة بالضبط.لن ننسى بعد ذلك كله، كما نسيت بعض نخب العاصمة تونس، أن "النهضويين" هم تونسيون أصليون، وإذا ما قمعهم أحد اليوم بذريعة ما، فعلينا أن نتوقع أن يُقمع أي حزب آخر بذريعة أخرى في المستقبل. لا ندافع هنا عن "حداثة" حركة النهضة بل نشير إلى "سرقة مفهوم الحداثة".
تلويحة المدى: تونس بصفتها بطاقة بريديّة زاهية وفرانكفونيّة
نشر في: 4 نوفمبر, 2011: 06:07 م