ابتهال بليبل عندما يدب الحزن.. أي حزن.. تَصير "الكلمة" للدموع، ويصبح الجرح حاكماً يقرر المصير، ولذا تشعر المرأة بشيء من الألم الضمني، وتقف عاجزة، ويغمى على معاني الحياة بداخلها، يصيبها أحساس زوجة شابة فاتنة تترقب مصرع زوجها الذي تزوج عليها من امرأة أخرى، وتراه يتلوه بندمه للرجوع إليها، وهي لا تملك إلا الصمت، أو ترسل نداء إلى الرب تشكره على عدالته... في الأيام الماضية، قابلت امرأة عجوز، نفت أي وجود للعدالة الإنسانية، بعدما أعلنت أسفها على حال فتاة شابة كُتب عليها الصمت لتحيا...
ولكن ما مدى قدرتها على الصمت، حين يخنقها على وسادتها ليلاً، لتموت؟!.. لقد أصابني مرات عديدة هذا الشعور الذي أنتاب العجوز، فالتحقت أياماً بوجع الضمير، وانزويت عن كل السعداء والمترفين الذين أعرفهم.. فحكاية الفتاة الشابة التي سردتها لي، لم تكن جديدة بقدر كونها مؤلمة.. موت هذه الفتاة لم يكن هزيمة أو انهياراً أمام جبروت الصمت وقسوته ... موتها كان حالة من الخدر المفروض علينا قبل الرحيل، خدر بطيء نشعر به طوال حياتنا، ويستمر حتى ينقض على أرواحنا ويشلها .. ماتت هذه الشابة بعد معاناة نفسية كبيرة ابتدأها القدر معها بزوجة أبيها حتى ألفت قسوتها، وصارت تستمع إلى نشرة المهانة اليومية بلا مبالاة، فكرة الزواج وحدها هي التي كانت تشحن ذاكرتها المتخمة بالأوجاع.. وجاء الزوج الذي اختارته لها زوجة أبيها، ليرمي بها إلى الصمت العظيم..وهكذا قابلت هذه الفتاة حياتها الجديدة بالسكوت عن الجوع .. بالسكوت عن المهانة ... بالسكوت عن كل شيء وأي شيء.. تجلس في مساء كل يوم مع نساء الحي.. يلهو طفلها الصغير بملابسه البالية بالقرب من عجوز تبيع الحلوى.. يمد يده ليمسك بواحدة .. تلتفت أمه وتصفعه.. يبكي .. تشفق عليه إحدى النساء الجالسات تشتري له الحلوى وتمنحه إياه، ترفض الأم أن يأخذها منها، وتحمل طفلها على صدرها وتهم مسرعة إلى مخدعها، بينما طفلها يبكي ويبكي طويلاً...الجوع والحرمان، وجهان لمعنى الحزن عند هذه الشابة، زوجها عاطل عن العمل، مالكو المنزل الذي تسكن فيه، ذكروهم هذه الليلة بضرورة إخلائه لعدم استطاعتهم توفير بدلات الإيجار، وأبوها يرفض مقابلتها، ففي آخر لقاء بينهما طلب منها أن لا تزوره مجدداً، لان زوجته لا ترغب برؤيتها.. وبغض النظر عن كل شيء.. احتضنت هذه الشابة طفلها الذي نام من الجوع والبكاء بجوارها، ونامت وهي تبكي، نامت كامرأة عاثرة الحظ، جرحتها حياتها بصخب طيلة السنوات ولم تقتلها، واليوم تذكرت ... فقتلتها بصمت.وإلى جانب هذا الركام من الحزن.. هل سنبقى صامتين إنسانياً ؟! يبدو لي أن الحكومة والمجتمع اكتفيا بالثرثرة عن أخبار انتصاراتهما وهزائمهما السياسية، بعيداً هناك حيث قضاء أوقات ممتعة في جزر النسيان.
عثرات أنثى : حين يكون الصمت قاتلاً للمرأة
نشر في: 19 أكتوبر, 2011: 08:32 م