د. حسن الجنابي المقدمة:تمثّل المشكلات المتعلقة بإنتاج واستهلاك أو استيراد الأغذية تحدياً حقيقياً في المنطقة العربية وفي العالم. ونظراً للتطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتجارة لم تعد المناطق والأقاليم منعزلة عن بعضها، ولم يعد مصطلح "الاكتفاء الذاتي" من الإنتاج الزراعي مغرياً كما كان يسوّق أثناء الحرب الباردة، بل دخلت مفاهيم جديدة تمثّل فهماً مختلفاً وتتطلب مقاربات نوعية جديدة. وقد مثّل اجتماع قمة الأرض في ريو دي جانيرو في عام 1992 الانطلاقة الرسمية لهذا التوجّه، ولكن مديات الالتزام به تختلف من دولة إلى أخرى ومن منطقة إلى أخرى.
فقد أقرّت دول العالم كافة بأن اللجوء إلى تطبيق أسس التنمية المستدامة هو الطريق الوحيد لتحقيق الرفاهية وتحسين نوعية الحياة في ظل الضغوطات الهائلة، الناتجة عن أنماط الاستهلاك واستغلال الموارد الطبيعية وحجم التلوث، والزيادة المضطردة وغير ذلك.بالسكان، وازدياد المنافسة على الموارد المشتركة، وعلائم احترار مناخي غير مسبوق ولاشك فإن للمنطقة العربية دوراً ملموساً في الاحداث العالمية، ويأخذ هذا الدور شكلا تصاعديا مع الزمن مع ازدياد الوعي الرسمي والشعبي بالمشكلات الكبرى، وفي ضوء التفاوت الواضح في مستوى التنمية الاقتصادية في دول المنطقة. فالدول النفطية (عدا العراق لأسباب معروفة) حققت قفزات كبيرة في الرفاه المادي لشعوبها، جلبت معها أنماط استهلاك مختلفة عما كان سائداً، وهي بالنتيجة دول قد تكون قادرة على تمويل برامج تلتزم من خلالها بتنفيذ التزاماتها الدولية. ومن جهة أخرى فقد شهدت التنمية تراجعا كبيرا في الدول الأخرى انعكست بعض وجوهه في التدهور البيئي وتراجع الإنتاج الزراعي، ومحدودية الموارد المائية، حيث برزت معها تحديات الأمن الغذائي، وازدادت الفجوة الغذائية بين الفقراء والأغنياء على المستويات الوطنية، وبين المنطقة العربية وبقية مناطق العالم، خاصة المصدّرة للمواد الغذائية، فأصبحت معه المنطقة مستوردا صافيا للأغذية بنسب تقترب من أو تزيد على 70% من احتياجاتها الغذائية. فالزراعة تمثل في العديد من أجزاء المنطقة الميدان الرئيسي لتشغيل القوى العاملة، وتوفير فرص الحياة الكريمة لفئات عديدة من السكان. لكن العقود الخمس الماضية شهدت تحولات كبرى بسبب اكتشاف واستغلال ثروات أخرى، أهمها النفطية، فتراجع القطاع الزراعي بدرجات متفاوتة وتقلصت نسبة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي إلى درجات متدنية، وحصل بالتزامن مع ذلك أن تطورت أنواع أخرى من التحديات وخاصة منها البيئية، دون أن يتمكن القطاع الزراعي من استيعابها أو التأقلم معها بدرجة تضمن استمرار فعاليته. وبرزت كذلك مع الزيادة السكانية الهائلة، وزيادة المنافسة على الموارد الطبيعية مشكلات أهمها: الأمن الغذائي الذي يتأثر سلبا باضطرابات السوق وتقلب الأسعار والمضاربات والكوارث الطبيعية من فيضانات وجفاف وغيرها، حيث إن نتائج التغير المناخي واحترار سطح الأرض أخذت تنعكس بشدة وتواتر غير مسبوقين. إن الكلفة الاقتصادية والاجتماعية لتراجع القطاع الزراعي في المنطقة العربية عالية جدا. فالزراعة هي المورد الرئيسي إن لم يكن الوحيد لسكان الأرياف الذين تتراوح نسبتهم بين 30% إلى 60% من السكان (باستثناء اليمن حيث تزيد على 70%) ، وان انعدام شروط الحياة الكريمة وتدهور الإنتاجية يدفعان بهؤلاء إلى مادون خط الفقر ويجبرانهم على هجرة الأرض والزراعة ليلتحقوا بطوابير العاطلين أو الباحثين عن عمل في حواشي المدن وأحيائها البائسة في ظروف لا إنسانية، وفي ظل نسبة زيادة سكانية عالية تقدر بـ 2.2%.الأمن الغذائي والسيادة:إن الأمن الغذائي مفهوم فني يتعلق بقدرة السكان في الحصول على كفايتهم من الغذاء بالطريقة التي تضمن لهم حياة صحية وقناعة بنوعية الحياة. وقد اعتمدت دورات القمة المتعددة التي عقدتها منظمة الأغذية والزراعة الدولية تعريفا شاملا له يبتعد عن فكرة الاكتفاء الذاتي من الإنتاج الزراعي المحلي باتجاه القدرة الدائمة للمواطنين في الحصول على ما يكفيهم من الغذاء ويتمثل ذلك بركائز أربع وهي: توفر الأغذية في السوق في كل الأوقات، واستقرار إمداداتها، وإمكانية الحصول عليها، واستخدامها بالنوعية المرغوبة وتغذيتها. أما السيادة الغذائية فهي مفهوم قانوني يتعلق بحق الناس، أفرادا وجماعات وأقطارا في الإنتاج الزراعي والحيواني والصيد والمراعي وكل ما يرتبط بذلك من منظومات ومؤسسات وسياسات تضمن حصولهم على الغذاء بطريقة تحترم طرائق عيشهم وتكون حافظة لمواردهم الطبيعية.وقد كفلت المواثيق الدولية حق الحصول على الغذاء، بدءاً من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وانتهاء بالإعلانات المتكررة للقمم العالمية حول الأمن الغذائي ومكافحة الفقر، والسعي لتحقيق أهداف الألفية الثالثة وغيرها. وتعتبر مصادقة الجمعية العمومية للأمم المتحدة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 كانون الأول 1948 نقلة نوعية في الوعي البشري، نحو الالتزام بمبادئ تصون كرامة البشر وتمنع الاستغلال والاستعباد، وتحقق الحريات الإنسانية الأساسية، وهي حريات متلازمة، بالطبع، بأبعادها المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فقد نصت الفقرة (25) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن "لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته، ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة، وله الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة والمرض والعجز وال
مشــكلات الإنتاج والاســتهـلاك
نشر في: 16 أكتوبر, 2011: 07:11 م