TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > منضدة واحدة فـي الشارع وكرسيّ

منضدة واحدة فـي الشارع وكرسيّ

نشر في: 15 أكتوبر, 2011: 05:58 م

لم تعرف مدينة النجف من قبل نشاطا كالذي بدأه فارس حرّام منذ أكثـر من عام بصحبة مجموعة من أصدقائه الكتّاب. الشاعر العراقي اختار أحد أرصفة مدينة النجف لإحياء قراءات أدبية وفكرية أسبوعية والتفاعل مع الجمهور وجهاً لوجه عبر مكبرات الصوت.أراد حرّام من هذه "المغامرة الصغيرة"، التذكير بأن هناك صوتا مغيّبا في عراق اليوم هو "صوت المثقفين"، وأن السياسات الحكومية تضع في حسبانها كل شيء سوى الثقافة!
فارس حرّام/ النجفrn-1-وأنا أركز في وجه صديقي جيداً، نسيت إننا الآن في مساء صيفيّ عام 2010، نحمل معاً منضدة بقياس مترين، ونحاول إيجاد مكان مناسب لها، في الشارع الذي سيكتظّ بعد قليل بالمارّة وسط مدينة النجف.نسيت هذا كلّه وأنا أتطلّع في وجه صديقي الشاعر مهدي شعلان، وأحاول التقاط صور سريعة لتجاعيد وجهه. بدا الرجل ذو الخمسين عاماً متحمساً أكثر من ذي قبل وهو يعاود نشاطه الثقافي بعد انقطاع دام أكثر من خمسة عشر عاماً، ترك فيها كتابة الشعر، لأنه "لا يُجدي" بحسب تعبيره، منشغلاً بإعالة أسرته بالعمل في دكان صغير يبيع الكتب.نسيت وأنا أفكر بتحولات حياة شعلان، وبكمية الزمن الضخمة التي خرجت عن سيطرته طوال محاولاته الجاهدة ليكون شاعراً يقرأه الجمهور في بلاده من جهة ومعيلاً "ناجحاً" لأسرته من جهة أخرى.. نسيت، وأنا أفكر بهذا كله، أن عليّ التركيز معه اليوم في وضع منضدتنا في مكانها المناسب أمام مئة كرسيّ مصفوفة بانتظام وسط المارة، بجوار خيمة تباع فيها الكتب ضمن فعاليات اختيار النجف عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2012.كانت الفكرة إطلاق حملة للمثقفين العراقيين في الشارع، للنقاش العلني في أسباب تراجع القراءة في مجتمعنا، وانحسار الجمهور الثقافيّ. وكان هذا جزءاً من طموحاتي الشخصية بوصفي واحداً أيضاً من الشعراء "الخاسرين"، لا بالمعنى الفني طبعاً، وإنما بالمعنى الثقافي، أقصد خسارة الجمهور العام والتأثير المباشر عبر الشعر في مجموعة من الناس.هكذا رأى العديد من أصدقائي إن الندوة التي أود إقامتها في الشارع، بجوار خيمة صديقي شعلان.. لا تعدو كونها "مغامرة" بالإشارة إلى أوضاع العراق اليوم. -2-ظلّ العراق، قبل سقوط نظام صدام عام 2003 وبعده، خالياً من أيّ برنامج لأيّ مؤسسة، حكومية وغير حكومية، يتضمن القيام بتنمية ثقافية منظمة وستراتيجية تعيد علاقة الفرد العراقي بالكتاب. وقد أسهمت التقارير الدولية والمحلية، وأرقامها المفزعة حول تردّي القراءة في مجتمعنا بإشاعة حالة إحباط مستمر لدى شعراء العراق، من أنهم سيموتون قبل أن يروا جمهوراً من خارج الوسط الثقافيّ يقرأ قصائدهم أو يحتفي بها.ولا أزال أعاني من الأرق الذي يسببه لي بين الفترة والأخرى واحد من هذه الأرقام المفزعة: أن معدل قراءة الفرد في أمريكا يبلغ أحد عشر كتاباً في السنة، ويبلغ في انجلترا سبعة كتب، أما في العالم العربي فرُبع صفحة لا غير. وليس بعيداً عن أرقام هذه التقارير أن أهم شعراء العرب اليوم وأكثرهم شهرة لا يطبع الواحد منهم أكثر من خمسة آلاف نسخة للكتاب الواحد. ربما تكون أزمة الشعر عالمية، في ضوء تزاحم الفنون وعالم الرياضة على استقطاب الناس، إلا أنها –جوهرياً- ليست نابعة عن أزمة عامة في المطالعة اليومية كما هو الحال في العراق والدول ذات الأوضاع المشابهة. إن أبناء وادي الرافدين - على اختلاف مستوياتهم التعليمية - لا يزالون يعشقون الشعر بصورة تبعث على الدهشة، لكن الشعر الذي يعشقه الغالبية العظمى منهم لا يتعدّى ذلك النوع الشفاهي الذي ينطق به شعراء اللهجة العامية، منتشراً في الاحتفالات الشعبية والتسجيلات الصوتية والأغاني البليدة. أما شعر اللغة الفصحى، لغة الكتابة والتعليم في العراق، فإنه بعيد عن اهتمام الجمهور.حتى المكتبات المنزلية، هي اليوم نادرة جداً، وبصراحة لن يخجلني القول أنني  منذ مطلع شبابي حتى الآن، لم يصدف أن دخلت إلى منزل أحد جيراني أو أقاربي، أو معارفي من خارج الوسط الثقافي، سواءً في النجف أو بغداد، فوجدت لديه مكتبة منزلية ذات كتب متنوعة، باستثناء تلك البيوت الدينية، أو التي لدى أفرادها نزوع للثقافة الدينية، وهي مكتبات –أولا وأخيرا- ليس فيها ثقافة عامة بالمعنى الحقيقي.  -3-لقد كان من أسباب تدمير الجمهور الثقافي في العراق، ومنه جمهور الشعر، أن الطبقة الوسطى التي تضمن نشر المعرفة وقيم الجمال في المجتمع، قد جرى تدميرها بصورة منهجية أيام حكم نظام صدام. مثال على ذلك: ذهاب عشرات الآلاف من الموظفين العاديين والأطباء والمهندسين والمحامين وأساتذة المدارس والجامعات إلى الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)؛ وعاد غالبية من نجا منهم من الموت أو الأسْر يحملون صوراً مشوشة عن الحياة.مثال آخر: آلاف الشهادات الجامعية التي تم منحها دون استحقاق، في ظل انهيار التعليم في العراق وقت الحصار العالمي عليه (1990-2003)، وكان طبيعياً أن يتحول "الأساتذة الجدد" إلى جزء جديد من المشكلة، ذلك أنهم نقلوا للشبان ابتعادهم هم عن التثقيف الذاتي وحب القراءة.rnأكثـر الأمثلة مأساوية.. شعراء صدامكان نظام صدام يقدم للجمهور شعراءه الخاصين به، وباستبداده، في دعايات إعلامية واسعة، وكانوا في الغالب شعراء من الدرجة الثالثة والرابعة، اكتسبوا

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

بغداد/ المدى تنطلق فعاليات الدورة الخامسة من معرض العراق الدولي للكتاب، في الفترة (4 – 14 كانون الأول 2024)، على أرض معرض بغداد الدولي.المعرض السنوي الذي تنظمه مؤسسة (المدى) للإعلام والثقافة والفنون، تشارك فيه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram