اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > غوايات كتابة الرواية.. سلطة المشهد المتخيّل

غوايات كتابة الرواية.. سلطة المشهد المتخيّل

نشر في: 19 نوفمبر, 2011: 06:23 م

سعد محمد رحيم شرعت بكتابة الشعر وأنا في الخامس الابتدائي.. كنت أدوّن في دفتر مدرسي صغير مقطوعات وجملاً منمّقة ومسجوعة أقلد بها بسذاجة القصائد المنشورة في كتب القراءة المدرسية.. ستكتشف أمر الدفتر ذاك ممرضة شابة من بغداد كانت تؤجر بخمسة دنانير في الشهر إحدى غرفتي بيتنا المؤجر أصلاً في السعدية.. سألتني: ـ من أين نقلت هذا الكلام؟
لم أنقله، كتبته أنا.ـ كذّاب!    ـ واللهِ.احتضنتني وقبلتني.ـ إذن ستكون شاعراً.. أقسم...بقيت أستعيد مذاق دفئها وعطرها وقبلتها على خدي لسنوات، لكني لم أغدُ شاعراً كما تنبأت.. قرأت عشرات الروايات البوليسية وأنا في الأول والثاني المتوسط، فقد اكتشفت كنزاً منها في مكتبة بيت خالتي.. كان زوجها رحمه الله يملأ مكتبة خشبية بأعداد لا بأس بها من الكتب.. حثني صديق على قراءة كتب أخرى فوقعت أولاً على كتاب (يوميات نائب في الأرياف) لتوفيق الحكيم الذي سأقرأ له ولطه حسين أكثر من ثلاثين كتاباً في صيف العام 1972.. وقبل (ألف ليلة وليلة) سحرني كتاب (ألف ميل بين الغابات) للراحل محمد شمسي.. أذكر أنه كان أول كتاب أشتريه في حياتي فقد دفعت ثمنه؛ ربع دينار، من مدخراتي الشخصية.. قرأت ذلك الكتاب أكثر من سبع مرات وأنا في ذروة النشوة، حيث ركبتني، يومها، نزوة أن أرحل وأغامر في أقطار الأرض الواسعة. لكن، وبمرور الزمن، وتحت تقلبات أحوالنا العراقية، فترت تلك النزوة حتى كادت تتلاشى. وحتى وجدت البديل، أخيراً، في مغامرة الكتابة.أظن أن رواية (ميرامار) برأتني نسبياً من غواية الشعر وسلمتني وأنا صاغر وراضٍ تماماً لغواية السرد.. في ذلك الزمن الذي قرأت فيه (ميرامار) خبرت إحساساً غامضاً حول ما سأصبح عليه يوماً ما، أو ما أتمنى أن أصبح عليه. وبدأ حلم أن أكون روائياً يزهر في داخلي. أزعم أن نزعة كتابة الرواية، في الصميم، هي نزعة إنكار ورفض وتمرد، لذا فإن الشخص المتوافق مع نفسه وبيئته وحالته وزمانه ومكانه لا يمكنه بأية حال أن ينجز كتابة رواية جيدة. إذن فإن الروائيين هم في حقيقة الأمر فئة ملعونة من الساخطين يعتقدون أن عالمهم مركّب بطريقة خاطئة، وأن وجودهم ووجود مَن حولهم هش وغير آمن، أساسه القلق والرعب، وما عليهم (أي الروائيين) إلا أن يكتبوا الروايات تحت إيحاء أن ثمة أملاً، ربما، وكوّة للخلاص. ولأن الرواية كما يقول باختين لا شكل نهائياً وقاراً لها، فإن كتابتها تعد مغامرة قد تصل بكاتبها إلى اللقية التي يرغب فيها، أقصد النجاح، أو تودي به إلى الضياع والفشل. والرواية ـ أية رواية ـ هي في النهاية محصلة صراعٍ ضارٍ بين رغبتين تتملكان الروائي وتتنازعان كونه النفسي والذهني طوال المدة التي تستغرقها عملية الكتابة، حتى وإن لم يعِ ذلك.. رغبة تتجه نحو تعرية الذات وفضحها ورغبة مضادة تتجه إلى مواراة حقائق الذات والتمويه عليها. فكل رواية تنطوي على الخريطة السرية لروح كاتبها. وما النص المكتوب والمنشور سوى عرض مموّه وملغز لتلك الخريطة.أما من يكتشف مغزى هذه اللعبة وأبعادها وخفاياها فهو القارئ الفطن.أعتقد أن الإقدام على كتابة رواية يتصل بأحد ثلاثة دوافع رئيسة أو أكثر:1 ـ استعادة ماضٍ ينتابنا الحنين إليه. هنا تكون كتابة الرواية فعلاً نوستاليجياً أو مسعى للتخفيف من عبء النوستالجيا.2 ـ احتواء مكان عشنا فيه، أو مررنا به يوماً ما، أو تخيلناه، ونؤمن بأننا صرنا جزءاً منه، وقد صار من حقنا حصراً، لذا علينا أن نطويه بين دفتي رواية، لنطمئن أنه بات ملكاً لنا.3 ـ خلق عالم افتراضي بديل لعالم واقعي لم نعد نطيقه.بالمقابل، يحتاج الروائي إلى ست خصائص ليكتب رواية ناجحة : لغة سرد مطواعة ذات قوة وطراوة.. أسلوب متفرد.. تجربة حياة يعرف عنها الروائي جيداً أو يمتلك رغبة عاتية ليتعرف عليها مع القدرة على ملاحظة تفاصيلها ومساراتها.. رؤية ناضجة إلى الذات والحياة والوجود والمصير.. خيال خلاّق.. وأخيراً: ضمير حي، حر وشجاع. وشخصياً، لست أدري ماذا وكم أمتلك من هذه الخصائص؟يبدأ النشاط السردي (قصة أو رواية) في ذهني، غالباً، بتشكل صورة، أو مشهد قصير في مكان بعينه. فتكون هذه الصورة أو ذلك المشهد بمثابة البؤرة التي منها ستنبث بقية تفاصيل السرد باتجاهات تتشعب وتتجسد في أزمنة وأمكنة ومشاهد وشخصيات. وليس شرطاً أن أستهل بذلك المشهد كتابة نص الرواية، فقد يتخذ موقعه في مبتدأ الرواية أو في منتصفها أو في نهايتها. في تلك الصورة أو في ذلك المشهد لابد من وجود شخصية واحدة لافتة ومثيرة على الأقل. وتصوّر الشخصية باعتقادي هو نقطة الشروع لكل عمل سردي. وبطبيعة الحال لا تنفصل الشخصية عن بيئتها.. إذن الشخصية في مكان هو رهان السارد الأول.. من هنا ينمو الحدث ويجري استدعاء الشخصيات الأخرى ويُبنى النص.المشهد الذي انبثقت منه روايتي (غسق الكراكي) هو صورة شخص يتسلق نخلة بحثاً عن مفتاح بين ألياف السعف، خبأه هناك شخص آخر.. الشخص الثاني دلّ الشخص الأول، قبل سنة، على موضع المفتاح وأوصاه أن يعثر عليه ويفتح به صندوقاً ما إذا ما غاب.. قادتني صورة الصندوق إلى تخيل صاحبه: الشخص الذي ترك المفتاح في أعلى النخلة، بين الألياف المتشابكة.. وأين يمكن أن يكون في وقت تسلق الشخص الأول للنخلة.. إنه ليس هنا الآن.. إنه ضحية حرب الكويت.. شخص ترك صندوقاً

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram