لبنى ياسينأمام لوحات الفنان العراقي فائق العبودي، لا بدّ من أن تعتريك حالة من الدهشة، فتتدلّى الأسئلة من رأسك، وتبحث في تفاصيل المنمنمات والتكوينات الصغيرة، لتبعث فيك رغبة في التأمل... وفي البحث، وفي التوغّل العميق داخل الطقس الإبداعي الذي أدّى إلى ولادة تلك اللوحات. ولابدّ من أن تصيبك طلاسمه المعتّقة بألوانها الحارّة والجريئة بقشعريرة الشعور المبهم الذي يراودك كلّما حاولت الإيغال في قراءة تفاصيل لوحاته عن كثب، لتستحوذ على مشاعرك، وتترك أثراً لا يمحى في ذاكرتك.
لا غرابة في ذلك عندما تعلم أنّ بين العبودي ولوحاته علاقة من نوعٍ خاص، علاقة تعتمد على الندّية المحبّبة، وعلى الحوار المتبادل، فهو يتبادل وإياها حواراً سرياً، تخبره من خلاله متى... وأين يجب أن يضع لمساته الأخيرة ليعلن ولادتها بعد مخاضٍ جميل. كما أنّه يتحسّسها مراراً لتكون حواسّه متفتّحة لاستقبال إشعاع ألوانها، وتكون هي حاضرة لاستقبال ريشته. وعندما يرسلها للمشاركة في معارض عالمية في مناطق متفرقة من العالم، فهو يقوم بوداعها وداعاً لائقاً، فيقبّلها، ويبثّها شوقه قبيل السفر. فاللوحة ليست مجرّد خامة وقماش وألوان تخضع لقانون الجماد؛ إنّه يتعمّد إحياءها، وبثّها بعضاً من روحه ومشاعره ومحبته، حتّى لتكاد تتدفّق تلك المشاعر وأنت تقف خاشعاً أمام كائناته ومنمنماته وألوانه.اللوحة عنده مبطّنة واضحة، سهلة ممتنعة، هادئة صاخبة، تحمل الشيء ونقيضه في الآن ذاته. ذلك أنّ لوحاته تتألّف من عدة طبقات قد يصل عددها إلى عشرة، بألوانٍ مختلفة، كأنّها تعزف على وتر التناقض والتضادّ بين اللون والشكل والضوء والروح والحركة والشعور.هو يغازل لوحاته قبل أن يباشر الرسم عليها، فيحضّر اللوحات بطليها بموادٍ مختلفة يختارها حسب مشروعه وألوانه. ويرتّب مناخه الخاص الذي يلزمه يومٌ كامل لتحضيره في مرسمه، للدخول في طقوسه الخاصة التي تنتهي كلّ مرة بولادة لوحة جديدة تحمل توقيعه لتكون نتاجاً مدهشاً لطقسه الصوفي؛ حيث يعتزل في مرسمه كلما أعلنت روحه مخاضاً جديداً.ولأنّ اللوحة تترجم مشاعر مبدعها بطريقةٍ أو بأخرى، فهي تخبرك بالقلق الذي يعتريه كفنّان وكإنسان، فهو دائم البحث على ما يثري تجربته، ويقدّمها في حلّة جديدة، من خامة وألوان ومادة، وهو دائم التجريب لكلّ خامة، كما أنّه يصنع لونه بيده، لذلك لا تتكرّر الدرجة ذاتها للّون في لوحاته. هذا القلق مصدره الحرص على تقديم الجميل والمميّز الذي يصل بسهولة إلى المتلقّي ويلامس مشاعره، وهو الذي يجعل للوحات الفنان بصمة مختلفة، وهوية شخصية تجعل من السهل رؤية بصماته على اللوحة حتّى لو لم تقرأ توقيعه.واللوحة عند العبودي تتكون من فسيفساء لعدّة لوحات صغيرة. كلّ منها لوحة مكتملة بحدّ ذاتها، تحمل التوازن واللون والضوء بشكل يفي بحاجتها كلوحة، إلاّ أنها وبطريقةٍ فريدة قطعة من لوحة كبيرة، فهي جزء من كلّ، وهي الكلّ أيضاً، مما يكسبها تنوعاً فريداً، وقراءة مختلفة في كلّ مرّة يمرّ الناظر إليها، ليكتشف شيئاً لم يره في المشاهدة السابقة.وهو يستخدم تقنيّته الخاصة في التعتيق لتبدو لوحاته كما لو كانت رقيماً أثريّاً مكتوباً بلغةٍ قديمة خرجت توّاً من الحفريات، وهو ما يكسبها عراقة وقدماً ملفتاً، بالإضافة إلى مكوّناتها الدقيقة التي تبدو كحروفٍ كتابية للغة غير معروفة، أو طلاسم سحريّة ينحصر تأثيرها في الذائقة الجماليّة للناظر عيناً وروحاً، مما يمنح أعماله خصوصيّة مفعمة برائحة عراقة الشرق الممزوجة بحداثة الغرب، حيث يمزج بين هذين المكوّنين المتناقضين بكل ما فيهما، بتقنية مدهشة تجعلك تقف طويلاً أمامها في محاولة لفك رموزها.
فـي تجربة الفنان فائق العبودي.. طقوس الرسم من المخاض إلى الولادة
نشر في: 27 نوفمبر, 2011: 07:37 م