أ.د.قاسم حسين صالح ثمة حقيقة اجتماعية-نفسية هي أن المجتمعات العربية حين تمر بأزمة،فإن الغالبية المطلقة فيها تتوجه إلى الدين. ولهذه الظاهرة ذات الدلالات الكبيرة والخطيرة أسبابها، نصوغ خلاصتها بما يشبه النظرية، هي:
(حين لا يقدم الواقع: النظام، السلطة، الحكومة، حلولاً لما تعانيه الناس من مشكلات تؤمّن احتياجاتها الحياتية، فإنها تعيش حالة قلق وتوتر لا تستطيع أجهزتها العصبية تحمّلها إلى ما لا نهاية. ولأنهم يشعرون بالعجز من أن يقوموا هم بإصلاح الحال، ولأن (القدرية) تشفّرت في عقلهم الجمعي حين تضيق بهم الأمور، فإنهم يلجأون إلى الدين لخفض هذا التوتر، لأنهم يجدون فيه الأمل وتمنّي الفرج الذي يعيد إليهم توازنهم النفسي).كان إطلاق عنوان (تسونامي العرب) على الأحداث التي بدأت في تونس ومصر... أصدق من عنوان (ربيع العرب)، لأن (الإعصار) يحمل المفاجأت. ولعل المفاجأة الأكبر هي أن (ثمرة ) ثورات العرب قطفها وسيقطفها الإسلام السياسي مع انه ليس بمفجّرها ولا متصّدرا لأحداثها. فلماذا يحصل هذا الذي يبدو غير منطقي،في مفارقة: أن الذين نزلوا إلى الشارع وضحّوا وأسقطوا أنظمة حكم قوية، يخرجون منها كما بدأوا، فيما الذين كانوا يتفرجون.. يتسلمون السلطة؟!التحليل الاجتماعي وعلم النفس السياسي يقدمان لنا الإجابات الآتية:1. إن الأحداث التي بدأت في كانون الثاني / يناير وشباط / فبراير 2011، كانت ثورة تلقائية قام بها أفراد غير منتظمين بحزب له تاريخ وقيادة لها فكر إيديولوجي، إنما كان يجمعهم الإحساس بأنهم مضطهدون من سلطة غير عادلة اجتماعيا ولا تحترم كرامة الإنسان. وكان الشعور بالحيف والمهانة قد عمل على تحرير (أنا) الكرامة والحرية المكبوت في الداخل لينفجر في صرخة وصل صداها الى مكبوت آخر، فعملت محرّضا لأن يصرخ.. لتتحول الصرخة بين المكبوتين الى ما يشبه عود ثقاب أشعل عود حطب في بيدر ليحترق البيدر بأكمله.. فتكاثفت صرخات الأفراد في صرخة جموع وصل صداها الى مكبوتين كانت أصواتهم مخنوقة في حناجرهم .. فأطلقوها.. لتتوحّد في صرخة أرعبت السلطة التي كانت تخرس كل الأصوات. هذا يعني أن المحرّك الأساسي لثورات العرب كانت (انفعالات) أكثر منها (فكرا). بمعنى، أن المشاعر الشعبية المشتركة التي تحررت من كبتها هي التي وحّدت تلك الثورات وليس الفكر المتمثل بقيادة موحّدة تمتلك خبرة في بناء دولة جديدة. والنتيجة المنطقية،هي أن أية انتفاضة شعبية من هذا النوع ينتهي أو يضعف دور القائمين بها بانتهاء مشهد الانتفاضة.. ليبدأ دور قوة يجمعها تنظيم ويوحّدها فكر، تتصدر المشهد وتقطف الغنيمة جاهزة.2. إن مناصرة أميركا لإسرائيل، ودعمها لأنظمة حكم عربية فاسدة ومستبدة، ومعاداتها للقوى الإسلامية، يعدّ من أهم الأسباب التي تجعل قوى الإسلام السياسي تحظى بتأييد واسع بين الفئات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة التي تؤلف النسبة الأكبر في المجتمعات العربية في تحديد الفائز بالانتخابات التشريعية.3.إن القوى اليسارية والأحزاب الشيوعية في العالم العربي، مع أنها الأكثر في التضحيات البشرية، لم يعد لها الرصيد الجماهيري الذي كانت تتمتع به في خمسينات وستينات القرن الماضي ،للأسباب الآتية:أ. تعرّض أقوى حزبين شيوعيين في العالم العربي، الشيوعي العراقي والشيوعي السوداني، إلى كارثتين تم فيهما تصفية قياداته وكوادره الفاعلة، نجم عنه انكسار نفسي خفت فيه أمل الجماهير التي كانت ترى في هذه الأحزاب.. المنقذ والمخّلص.ب. انقسام القوى اليسارية والتقدمية على نفسها، وتحكّم (تضخّم الأنا) في قيادات فصائلها الذي حال دون توحّدها، أفضى الى إضعاف نفوذها ومحدودية التأييد لها في الانتخابات العامة، لسبب سيكولوجي يعتمل في ذات الناخب العربي، هو أن القوى التي لا تستطيع أن تصل الى صيغة توافقية في ما بينها لا يمكن لها أن تبني وتقود دولة.ج. تخوف العامة من الناس وخشيتهم من أن القوى العلمانية ستعمل ضد الدين إذا تسلّمت السلطة، وستشوه تقاليد وقيما أخلاقية ومقدسات يعرضهم دفاعهم عنها الى دكتاتورية من نوع جديد.د.تولّد ما يشبه اليقين لدى الغالبية في المجتمعات العربية بأن القوى اليسارية والأحزاب الشيوعية لن يسمح لها داخليا (أصحاب الثروة) وخارجيا ( أميركا تحديدا) بتسلّم سلطة ولا حتى أن يكون لها دور فاعل فيها..يفضي سيكولوجياً إلى البحث عن بديل مقبول في نظرها ،فتجده في قوى الإسلام السياسي، ليس لما يتمتع به من أهليّة في تسلم الحكم، ولكن لضعف إعلام وتثقيف القوى التقدمية الذي يبطل (يقين)عجز الأغلبية بيقين الممكن الأفضل والأكفأ.ه. ضعف الإمكانات المادية للقوى التقدمية، لاسيما في وسائل الاتصال-الفضائيات بشكل خاص- واعتمادها وسائل تقليدية في التثقيف الجماهيري، أمام زخم هائل من إعلام عربي يدعم بشكل مباشر وغير مباشر.. الإسلام السياسي.4. إن انهيار الاتحاد السوفياتي الذي كان يمّثل قوة عظمى ناصرت حركات التحرر العربي في الجزائر، والعراق،... وموقفه الحازم والتاريخي بوجه العدوان الثلاثي على مصر، أضعف رصيد القوى التقدمية بين الناس التي كانت تعلّق عليها الآمال في الخلاص، وتفرّد، خصمه، أ
ثورات العرب.. وربيع الإسلام السياسي
نشر في: 27 نوفمبر, 2011: 07:42 م