علي حسينلا تستغربوا محاولة البعض في الضحك علينا بكلمتين حول الثقافة ومدنية الدولة واحترام الرأي الآخر وضمان الحريات، فتلك بضاعة لا ينفد معينها، ثم إنها بضاعة مجانية، لا تتطلب من أصحابها سوى تزويق العبارات وحبكها، وهي الصنعة التي راج سوقها في زمن العجز عن الفعل و الاستقواء بالكلمات، إذ كما أن هناك من يفصّل القوانين على هواه فهناك أيضا من يجيد تفصيل الخطب لتناسب كل مقام وزمان،
لا غرابة في كل ذلك، وإنما الغريب في الأمر أن يؤخذ مثل هذا الكلام على محمل الجد، والأشد غرابة أن يصدقه البعض، خذوا مثلاً الكلام الذي تحدث به السيد رئيس الوزراء حول أن "المنطقة تعاني من السياسيين غير المثقفين الذين يحاولون السيطرة والهيمنة عبر الديانة والمعتقد أو عن طريق السلاح والعشيرة"، فالذي يقرأ الكلام ويسمعه يتصور أن الحكومة مشغولة أصلا بالاهتمام بالمثقفين، فيما الواقع يقول إن المسافة بين الخطاب المعلن، والواقع المعاش على الأرض بعيدة جدا للأسف الشديد، وتكفي نظرة سريعة على ما يحدث في العديد من المؤسسات الثقافية لكي نكتشف أننا نعيش وهم التغيير، فالمراقب للوضع الثقافي في العراق سيصاب باليأس ويخرج بانطباع مرير بأن الحكومة لا يهمها أمر الثقافة في شيء. فالمثقفون كانوا يأملون بنخب سياسية تفهم طبيعة المجتمع العراقي، وتسعى الى اختراق العقبات والحواجز لتصل إلى الإنسان العراقي وتقيم معه علاقة تفاعل مطلوبة من اجل خلق السجالات والتحريض على الرأي والمساهمة في تشكيل ملامح الحاضر والمستقبل، وقد يكون من المضحك أن يصدق المثقف كلام من نوعية أن "المفهوم السائد يشير إلى أن السياسي يحقد على المثقف لفكره ومكانته، والمثقف يحقد على السياسي للسلطة التي يتمتع بها"، افهم جيدا أن يحسد المثقف السياسيين لما حصلوا عليه من امتيازات وعطايا، لكن ما الذي يملكه المثقف في دنياه كي يثير حسد السياسي وحقده؟، الشيء الوحيد الذي يكرهه السياسي عند المثقف هو تدخله فيما لا يعنيه واعني به محاسبة الساسة ومساءلتهم عن المحسوبية والبيروقراطية ونهب المال العام والمحاصصة الطائفية، فالمثقف في عرف ساستنا كائن خطير ينظر له بمنتهى التوجس والريبة، إلا من دخل حظيرة الحكومة جبرا أو اختيارا؟ المحزن في تصريح المالكي، انه افترض فينا الغباء والبلاهة. ولا أعرف كيف أقنع نفسه بأنه يمكن أن نصدق هذا الكلام، في حين أن أي مواطن عادي يعرف جيدا أن المعركة الوحيدة التي تخوضها القوى السياسية اليوم وبكل قسوة وشراسة ليست معركة بناء مجتمع متعلم تصان فيه الثقافة وتزدهر روح الدولة المدنية، بل هي معركة تكريس احتكار السلطة بكل الوسائل. إن المشكلة التي نواجهها اليوم لم تعد تتمثل في إصرار البعض على احتكار السلطة وغياب الحريات المدنية فقط، وإنما هي في الإصرار على محاربة الحريات والوقوف بوجهها والإصرار على تدمير عناصر المجتمع المدني حتى لا يلوح في الأفق أي بارقة أمل في إمكانية وجود بديل يمكن أن ينافس يوما ما، ما هو قائم، وتشهد بذلك القيود التي تكبل الحريات العامة وتلوح بقوانين مجلس قيادة الثورة المقبور في إرهاب الناس التي أصبحت غاية أمانيهم أن يحصلوا على قليل من الكهرباء وعلى وظيفة تسد الرمق وعلى بيت حتى وإن كان من الصفيح وعلى أمان يحمي أبناءهم من عصابات الإرهاب والجريمة.كنت أتمنى لو أن السيد رئيس الوزراء خرج علينا بخطاب واضح وصريح حول إصرار الحكومة على الوقوف إلى جانب الحكومة السورية برغم ما ارتكبته من مجازر بحق شعبها، وهل هذا الموقف جزء من ثقافة حكومتنا التي تعتقد أن الشعب السوري لم يبلغ سن الفطام بعد؟، اليوم الناس تتمنى خطابا تستعاد فيه الحرية بمعناها الحقيقي، حرية أن تنام الناس آمنة في بيوتها، حرية أن تفكر بمستقبل أفضل، حرية الاختيار، حرية التفكير، حرية القول والفعل، حرية تضمن حياة كريمة لا وجود فيها للسراق ولا المرابين ولا رافعي الشعارات الكاذبة، لا وجود فيها للمزور والمرتشي وقاتل النفس البريئة واللاعب على حبال الطائفية.
العمود الثامن: ثقافة حكومية.. وبامتياز!
نشر في: 3 ديسمبر, 2011: 10:00 م