نجم واليآخ، انسحاب الأميركان، ماذا يعنينا ذلك؟ علّق الصديق (س) في بغداد وهو يخرج زفرة عميقة "نحن محتارون بالكهرباء والماء والنفط والغاز ناهيك عن الذباب، أعفيني أرجوك، ففي النتيجة لا هم أوريست ولا نحن أهالي آرغوس"،بتلميح منه إلى مسرحية الذباب لجان بول سارتر.
في المسرحية التي قُدمت على مسرح "لاسيتي" الباريسي 1943 بعد 3 أعوام من الاحتلال النازي لفرنسا، يحرر "البطل" أوريست أهالي آرغوس اليونانية من طغيان إيغيست الذي أقام بعد قتله أغاممنون والد أوريست والكترا وزواجه من كليمنتسترا زوجة الملك المغدور، نظام قمع فارضاً على أهل المدينة التكفير عن الجريمة التي ارتكبها هو وبالرغم من طلب زعيم الآلهة جوبتير لأوريست البقاء وتسلم العرش يقرر المغادرة تاركاً السكان "المحررين" مع قدرهم وعندما يغادر، يغادر معه الذباب الذي كان يطنّ في الجو ينقض على المارة والذي هو حسب جوبتير يمثل الندم الذي يتآكل أهالي آرغوس على مقتل أغاممنون حتى أنهم ظلوا يرتدون السواد حداداً عليه. أراد سارتر الإشارة إلى القمع الألماني الذي اشتد مع اشتداد المقاومة الفرنسية أما صديقي فأراد القول: إن من الممكن وصف الأميركان بكل النعوت باستثناء أنهم محررون مثلما أن بالإمكان وصف العراقيين بكل النعوت باستثناء أنهم شعروا بندم لموت طاغية زجهم في حروب متعاقبة اسمه صدام حسين.أنها لمفارقة أن الصديق هذا لا يريد نعت الأميركان بالمحررين وهو مَنْ وجد في مناسبة دخولهم بغداد فرصة للتخلص من دكتاتور جثم على رقاب الناس 35 سنة، وكيف أنه رقص فرحاً لحفل الإعدام الرمزي للدكتاتور في ساحة الفردوس ومعه رقصت عائلته الجنوبية بعدد أبنائها الذين صفّاهم صدام. عشرات العراقيين أخبروني بأنهم لم يصدقوا أنهم أصبحوا أحراراً من صدام. أنها لحظة لا يدركها إلا من عاش الاستعباد تحت حكم نظام مشابه أو جلس في زنزانات التعذيب. العراقيون وجدوا أنفسهم في امتحان صعب: أن يختاروا بين نظام دكتاتوري وبين غزو "إمبريالي" دوافعه معروفة.لكن مهما اختلف العراقيون بتقييم الحدث، إلا أنهم يتفقون بأن 9 أبريل 2003 هو لحظة تحوّل.الحلم الذي تخيله البعض بأنه سينتج عراقاً جديداً يسير على خطى المثال الألماني أو الياباني بعد 1945، وئد مباشرة مع العطار بريمير الذي جمع المعارضة العراقية التي جاءت على دبابات الأميركان وخاطبها بوصفها ممثلة لجماعات عرقية وطائفية ثم شكل منهم مجلس حكم يُعين رئيسه شهرياً على أساس الحروف الأبجدية. العراقيون كانوا بحاجة إلى دولة المؤسسات الحديثة والمجتمع المدني وليس دولة الطوائف. حصيلة ديمقراطية بريمير كشفت عن نفسها بأنها فقاعة وحسب وما أُطلق عليه بالاقتصاد "الحر" الذي انطلق بديناميكية بعد انهيار "الاشتراكية" والذي كان يمكن أن يكون قوة دافعة لبناء طبقة وسطى ضامنة للديمقراطية تحول إلى ساحة لاختبار قوة الطوائف والجماعات، من ينتمي إلى حزب أو ميليشيا دينية يستطيع فرض شروطه في السوق كما يشاء. أما رجال المعارضة العراقية فكانوا متاجرين تحولوا إلى أمراء حرب، أحالوا الجموع المنفلتة إلى وقود.الديمقراطية تعينهم بقدر تحقيقها لمصالحهم. ما زلنا نعيش لحظات الصراع بين هؤلاء. أكثر من عام مرّ على الانتخابات البرلمانية الأخيرة والوزارات الأمنية شاغرة. هذا هو العراق الذي تركته أميركا.لا جيش يحمي حدوده ولا شرطة تحمي مواطنيه.إنها لحظة ملتبسة حتى لأولئك الذين رأوا في دخول الأميركان لبغداد احتلال، لا العراقيين منهم الذين يمكن أن يروا فيه لحظة استقلال تصلح للاحتفال ولا جيران العراق، الطرفان يرسمان سيناريوهات سوداء للوضع بعد مغادرة الأميركان. "سيتركوننا مع الذئاب"، قال طارق عزيز وهو في سجنه. نسي أنه كان هو الآخر ذئباً يعوي بين الذئاب. أحمدي نجاد صرح وبلهجة احتجاجية بأنه لا داعي لسحب الأميركان قواتهم لكي يرسلونها إلى أفغانستان. المناهضون للاحتلال إذن طالبوا "المحتل" بالبقاء والمؤيدون لوجوده لم يعنهم ما يدور؟ وحدهم "الحواسم" زغردوا، لينتفعوا من كل ما تركه الأميركان، حتى الهياكل الثابتة والمنقولات في القواعد الأميركية انتهت إلى السوق السوداء، مكانس كهربائية وأطباق ستلايت، قطع غيار ومراحيض، كبائن خشبية ومكيفات هواء، غسالات كهربائية ومجففات، معدات إضاءة وبرادات، مواد ونفايات سامة، 130000 طن من المواد السامة حتى الآن!في نهاية مسرحية الذباب يغادر أوريست ويغادر معه الذباب. وفي العراق غادر الأميركان وتركوا الذباب، وأي ذباب؟ في المنطقة الخضراء مثلاً لسعاته تفوق لسعات الزنابير. أما الباقي فيدور بالملايين من مزبلة إلى أخرى يبحث عن قوته في مدن تحولت إلى قمامة منذ سنوات، ترتفع يومياً على شكل تلال، قمامة تزدحم بذباب يهجم على كل شخص قادم. لا كهرباء ولا ماء، لا نفط في بلاد النفط ولا غاز. آرغوس ما تزال على حالها وأوريست ما زال لم يمر من هناك.ماذا يعني رحيل الأميركان إذن بعد أن تركوا وراءهم بلاداً تحولت كلها إلى قمامة يجول فيها بحرية الذباب..قمامة أميركية بامتياز!
منطقة محررة: قمامة أميركية بامتياز
نشر في: 20 ديسمبر, 2011: 06:34 م