بغداد – المدى قد لا يبدو غريباً مشهد متسولة وهي تسعى بين المركبات للحصول على المال، لكن الغريب أن نشاهد سيدة في العقد الخامس من عمرها، ولها أربعة أبناء وثلاث بنات، تخرج كل صباح تتسوّل في الشوارع وتطلب المال من الناس وترجع إلى دارها مساء، الطريف في الأمر أن أبناءها حاصلون على شهادات جامعية كالطب والهندسة، أما زوجات أبنائها فواحدة منهن تربوية والأخرى موظفة في مؤسسة حكومية.
ويبدو أن هناك ظاهرة جديدة بدت تطفو على السطح رغم أنها قديمة إلا أنها زادت بشكل ملفت بسبب الظروف المعيشية الصعبة وفقدان المعيل، وتتساءل المواطنة رغد عدنان هل هذا عمل أم مرض، هل هذه طريقة جديدة للسرقة والاحتيال تحت غطاء التسول، حيث بات التسول اليوم إحدى طرق القرصنة والنهب لكسب المال؟ وهل النساء اللائي نراهن في الشوارع يجتهدن بذلك وحدهن أم يدعمهن أحد؟ وهل القانون بغفلة عنهن أم هن القانون؟ وهل هذا عمل أم سرقة أم وجهان لعملة واحدة؟ تقول الطالبة الجامعية هناء رعد، كنت في أحد مواقف انتظار سيارات الجامعة، وكانت الساعة الواحدة ظهراً، وإذا بثلاث متسولات لا تتجاوز أعمارهن العشرة أعوام طلبن مني مالاً، فقلت لهن -الله يعطيكن- وإذا بهنّ يقمْنَ بضربي ورمي الحصى والتراب عليَّ وسرقنَ منّي حقيبتي!مهنة كباقي المهنوتسرد في هذا الصدد أم مروة حكايتها مع جيران كانوا يسكنون مقابل منزلها، كانت صاحبة المنزل وبناتها يقدّمن لي يد العون ويقفن بجانبي في كل صغيرة وكبيرة، وكنت كلما أزورهن ألاحظ أموراً غريبة لكني كنت أتغاضى عنها، ولأن علاقتي أصبحت قوية مع صاحبة البيت، كنت أشكو لها دائما ضعف الحالة المادية، حيث أن زوجي كان يعمل حارساً في مولدة سحب الطاقة الكهربائية وما يحصل عليه لا يكفي لسد احتياجاتنا المعيشية وتكاليف الإيجار وغيرها من الأمور. وتشير أم مروة الى أن صاحبتها اقترحت عليها أن تعمل في التسول فهن يمتهن هذه المهنة سراً، لافتة إلى أن المبالغ التي تحصل عليها تسد كل ما تحتاج اليه وأكثر. المتسوّلات انتهازيّات!وعبرت التربوية في معهد العوق البدني أنوار غيدان، عن رأيها بالقول: النساء المتسولات ظاهرة سلبية في كل مكان، وهي مرفوضة تماما لأنها تدل على تخلف اجتماعي كبير، وعدم وجود ترابط وتكامل أسري، وصورة من صور هدم التكافل الاجتماعي، مشيرة إلى أن المتسولات فئة غابت عنهن معالم الحياة، ويفتقرن إلى الأخلاق والمظهر الطبيعي ولا يمتلكن الثقافة والعلم، وترى أنهن يحاولن انتهاز أي فرصة للحصول على ما يمكن الحصول عليه في أبشع الصور والأساليب لكسب مودة الناس مقابل مبلغ من المال.سلوك منحرفولعل المشكلة الكبرى بالنسبة لتفشي الظواهر السيئة وملامح السلوك المنحرف، هي بالأساس تنطلق من الأسرة، حيث لا يعيش أفرادها في وضع سوي تتوافر فيه الصحة النفسية والنمو الطبيعي والتنشئة السليمة، ناهيك عن العوز والحرمان وكثرة المشكلات بين الوالدين، والتفكك الأسري، ليواجه الأبناء ظروفاً أكثر تعقيداً أو مشكلات أكثر تكثيفاً تجبرهم على الانحراف. والتسول ليس إلا وسيلة من وسائل الانحراف الاجتماعي، ففي أكثر الأحيان نجد أن المتسول أمام طريق مسدود معبد بالأشواك يتجه نحو هذا وذاك في الطلب والسؤال. من جانبها، أوضحت الناشطة في مجال حقوق المرأة سميرة طارق: إننا لا نستطيع أن نصدر حكماً على جميع المتسولات وإنهن منتميات لعصابات، فربما هناك فئة منهن، هن ضحايا الجوع والحرمان.مشروع ناجح للجريمةمن جهتها، أكدت الخبيرة الاجتماعية الدكتورة سناء الحسني: لا يعدّ التسول نتيجة للفقر بالضرورة، وإنما ازدهر وتَطَور ليصبح مهنة لتنظيم الدخل في الشعوب النامية، مشيرة إلى ضرورة محاربة التسول على كل مستوى، سواء من قبل الجهات المعنية أم المنظمات الإنسانية، ومع الإعلام المضاد للتسول الذي يبدأ من كل مواطن يحارب التسول أو يشجع عليه، وألا ينظر إلى المتسول كونه فردا فقيرا أو محروما أو ضحية، بل هو صاحب مهنة سيئة وسلبية لجني المال السريع، فضلا عن أن المتسول مواطن أمّي وجاهل، وبالتالي يصبح مشروعا ناجحا للجريمة وتهديم المجتمع، مؤكدة بقولها أننا نحتاج إلى إعلام ديني وثقافي واجتماعي وتربوي واسع مع مكافحة الأمية والتخلص من البطالة بتشجيع العمل، ويتم هذا مع شرائح المجتمع كافة. للمتسوّل متطلّبات وأحلاموفي السياق ذاته وصف الخبير النفسي الدكتور عبد الرحمن طالب هذه الظاهرة بالقول: إن خلف التسول كثير من المشكلات المختلفة وخصوصاً الأسرية التي تترك آثارا واضحة في سلوك الأبناء ومنها الخلافات المستمرة بين الأبوين، مشيراً إلى أن من دوافع هذا الانحراف أيضا، الظروف المادية فهي تعمق الفجوة الموجودة، وللمتسول متطلبات وأحلام قد تفوق إمكانات الأسرة المادية.
سلوك منحرف بات اليوم مهنة كباقي المهن
نشر في: 7 ديسمبر, 2011: 05:54 م