TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > منطقة محررة: بين العمارة والبصرة وعائلة حنّا الشيخ

منطقة محررة: بين العمارة والبصرة وعائلة حنّا الشيخ

نشر في: 11 أكتوبر, 2011: 05:50 م

 نجم واليوُلدت في البصرة، لكنني نَموت وترعرت في العمارة، في كل سنوات تنقلي بين المدينتين، كنت مثل من يحاول التوفيق بينهما، صحيح أن هناك ما يفرق بين الاثنين، عراقة البصرة مثلاً وقدمها في التاريخ، وحداثة العمارة التي بُنيت أولاً في منتصف القرن التاسع عشر على شكل سردق عثماني لحماية القوافل من هجمات اللصوص،
أو أن البصرة ميناء العراق والعمارة مدينة حدودية لا غير، لكن ما جمعهما، هو أنهما كانتا مركزاً لأقوام وطوائف وملل وأديان: كان هناك الصابئة المندائيون، اليهود، المسلمون بشيعتهم وسنتهم، والمسيحيون من كلدان وآشوريين وأرمن وتلكيفيين، كان هناك عرب وكرد وتركمان وفيلية, وإنكليز، سواء أموات في مقابرهم الإنكليزية ومعهم جنود كِرْكة، من هنود وأفغان واستراليين، أو أحياء على شكل خبراء، بل كان هناك حتى بقايا برتغاليين جاءوا في القِدم. عندما تعرض الأساس الذي اعتمدت عليه دعامات المدينتين للثلم ونزح عنها سكانها الذين بنوها حجرًا على حجر، عندما طوقتهما الحروب، أفل نجم المدينتين، جفت أنهرهما، وقبلهما مات نخيلهما وبالملايين، لا أريد الحديث هنا عن كل ما حفظته في ذاكرتي عن المدينتين، عن توزعي في الانتماء لهما، بين بيت جدي من جهة أمي مفتش التمور في شركة التمور في البصرة، في المعقل، وبين بيت جدي الآخر، بستنجي المقبرة الإنكليزية في العمارة، بل أريد الحديث عن عائلة حنا الشيخ التي عرفتها أولاً في العمارة، قبل أن أراها لاحقاً في البصرة، في العشار، خلف عمارة النقيب، على شكل سوق حنا الشيخ، العمارة التي كانت مثلها مثل العديد من المدن الحدودية، تحولت في منتصف القرن العشرين إلى مركز تجاري شجع التجار على التوافد إليها من جميع أنحاء البلاد: عوائل من السوامرة والشيخلية والنجادة وأهل الموصل والأنبار وغيرهم، بعضهم ما زال موجودًا والبعض الآخر نزح عنها، أحدى تلك العوائل واشهرها، هي عائلة حنا الشيخ، صحيح أنني رأيت قصر هذه العائلة الذي ارتفع مثل حصن وسط المدينة على شارع دجلة في نهاية الستينات أولاً، إلا أنني سمعت عنها وأنا طفل القصص الكثيرة: وراثتهم تجارة النقل النهري والعمل في الموانئ من شركة لنج، أو أن إلغاء الإنكليز خط سكة الحديد الذي ربط البصرة بالعمارة، ساعد في صعود نجم العائلة التي جاءت نازحة من مثل عوائل مسيحية أخرى من الموصل، أو رسائل التهديد التي تلقتها، تطالبها بدفع فدية بمبلغ كبير، وإلا فستُختطف ابنتهم، (ظهر لاحقاً أن كاتبها ليس غير صديقنا رحمن أو شاكر، الرسام الاستثنائي، الذي ألقى بنفسه في أواسط السبعينات من الطابق العاشر لبناية الطلبة العرب في شارع الجمهورية). صحيح أن عائلة حنا الشيخ اختفت، واختفى معها العديد من العوائل، إلا أن روائياً مثلي، لا يريد لهذه القصص الاندثار، سيصر على التذكير بها، هذا ما فعلته في كل رواياتي ومجاميعي القصصية، إعلان الحرب على النسيان. اقول ذلك، وأنا أقرأ قبل ايام ما كتبه الصحفي سرمد الطائي في جريدة العالم، عن سعادته وهو يقرأ التعليقات عن مقاله الصغير عن العائلة العريقة هذه، فأي حزن سيشعر به واحد مثلي، كتب رواية بـ 672 صفحة (ملائكة الجنوب: كتب عماريا، دار المدى 2010) لا يتحدث فيها عن عائلة حنا الشيخ فقط، بل تحدث عن كل العوائل التي ارتبط تاريخها بالمدينتين؟ نعم أي حزن سيشعر به وهو يرى البلاد مازالت مصرة على النسيان؟ عشرات المقالات الثقافية تُكتب عندنا، تتحدث عن الحداثة وما بعد الحداثة، ومن يقرأ رطانتها، سيقول لنفسه، الرطانون هؤلاء في واد والواقع في واد آخر، النسيان هو مرض عراقي مزمن، فليس من الغريب، أن يعرف البعض الآن أن هناك عائلة عراقية متخصصة بالعمل في الموانئ اسمها عائلة حنا الشيخ، للأسف ليست تلك هي القصة الأولى ولن تكون الأخيرة في بلاد وادي النسائين.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram