حسن متعب تواترت الأنباء عن مبادرات أميركية كانت قد سبقتها تحركات بريطانية لإقامة تحالفات عشائرية واسعة، تضمن في الأساس الولاء العشائري للسياسة الأميركية التي لا تختلف في اتجاهاتها وأهدافها عن السياسة البريطانية تجاه العراق، غير أن مثل هذه التحركات تثير في أذهان المراقبين تساؤلات عدة، تبدأ بالأهداف التي ترجوها أميركا وبريطانيا منها وتنتهي بالفاعلية المتوقعة لشيوخ العشائر لضمان تحقيق تلك الأهداف،
وفي المقابل هناك أيضا تساؤلات عن موقف الحكومة التي من واجبها الحفاظ على سيادة البلد واستقلاليته ومنع التدخلات الأجنبية في شؤونه، وان كان هذا الواجب مازال حبرا على ورق، إلا انه واحد من أهم الواجبات التي تستدعي قيام الحكومات ونشوء الدول في العالم اجمع وليس في العراق أو المنطقة..إن أهم إشارة يمكن التقاطها وبعيدا عن تلك التساؤلات هو أن اللجوء إلى القوى العشائرية سواء من قبل قوى داخلية أو خارجية يعني في الأساس ضعف أجهزة الحكومة الإدارية والأمنية وعدم توفر الإمكانات الذاتية للحفاظ على هيبة الدولة وفرض سيادة القانون، مما يعني في النهاية فقدان العدالة وامتهان الكرامة وسيادة الفوضى، فالمنطق العشائري واضح في شريعته وكينونته، فهو قائم على منطق القوة والمزاج والعلاقات والموروثات التي يتنافى اغلبها مع التشريعات المدنية الاجتماعية والقانونية.. ولكن إشارة أخرى يمكن التقاطها أيضا من تلك الأنباء وهي أن السفارة الأميركية قد خصصت مبالغ مالية طائلة تفوق عدة مرات ما خصصته بريطانيا في تحالفها السابق مع العشائر العراقية، ولا نريد هنا البحث فيما إذا كان الأميركيون يريدون سحب البساط البريطاني أم لا، ولا يهم إن كان ثمة خلاف واختلاف في المنهج بين الإدارتين ولكن الأهم هو: هل أصبح شيوخ العشائر العراقية مادة معروضة في المزاد؟.. ليس بعيدا عن ذاكرتنا عهود الولاء التي كان يوقعها بعض شيوخ العشائر العراقية بالدم للدكتاتور السابق في الفترة التي شعر فيها بضعفه وبحاجته الماسة إلى ولائهم، فاستخدمهم مقابل المال والأعطيات كوكلاء له ضد أبنائهم وإخوتهم، ولكن العذر الذي يلتمسه الجميع لهم هو البطش والتنكيل الذي كان سوف يحل بهم إذا امتنعوا آنذاك عن ذلك، وبالمقابل ليس بعيدا عن الذاكرة موقف بعض العشائر المشرف في محاربة الإرهاب من خلال التشكيلات التي ساندت قوى الأمن والشرطة والجيش وأعادت للحكومة بعض هيبتها التي فقدت بسبب تنامي سطوة الميليشيات والإرهاب معا وتعدد مراكز القوى، وأخيرا ليس بعيدا عن ذاكرة التاريخ موقف العشائر العراقية في ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني، ورفضهم الأبي الخنوع والخضوع للاحتلال، ذلك الموقف الذي سجله التاريخ لهم بمداد من ذهب، لان المال لم يكن موجودا كدافع لهم للقيام بواجبهم الوطني الشريف، ولكن أي شيء سيسجله التاريخ للذين يعقدون التحالفات والصفقات الآن؟.. وماذا بإمكانهم أن يقدموا للأميركان والبريطانيين مقابل المال؟..صحيح أن الأوضاع الاجتماعية في العراق الآن تعطي للدور العشائري دورا مهما في مجمل النشاطات اليومية، إلا أن ذلك ناتج عن تردي الأوضاع وليس تقدمها وعن توقف حركة التنمية البشرية وعن مستوى التخلف الذي يؤدي إلى تفكك الهوية الوطنية وضعف القوانين والتشريعات وانحسار الخيارات المدنية أمام المواطن، فهل تسعى الإدارة الأميركية وبالتحالف مع الحكومة إلى تكريس مثل هذا المشهد الذي يتعارض كليا مع روح المواطنة ومفهوم العدالة وسيادة القانون؟.. وإذا كان الموقف الأمني هو الذي يدفع الإدارة الأميركية والحكومة الضعيفة للافادة من سطوة شيوخ العشائر في هذا المجال، فما بال البرلمان الذي يسعى أعضاؤه إلى سن قوانين وتشريعات من شأنها تكريس الواقع العشائري دون أية التفاتة أو نظرة جدية إلى مستقبل شعب يصبو نحو التقدم ويأمل بالتنمية ويعقد الآمال على هؤلاء الذين أوكل إليهم مصالحه الحاضرة والمستقبلية.. قد تغلف الإدارة الأميركية نواياها بان هذه الأموال تصرف في مساع حثيثة لضبط الأمن ومحاربة الإرهاب؟.. وقد يؤطر البرلمان مساعيه بان مثل هذه التحالفات والتشريعات المرافقة لها تدخل في باب تقوية اللحمة الوطنية بين عشائر العراق بمختلف انتماءاتها، إلا أن هناك حقائق لا يمكن إغفالها، وهي أن تكريس الإرادة العشائرية يدفع البلاد إلى الوراء بسرعة تفوق سرعة خطط التنمية والإعمار التي تخصص لها المليارات وتفرغ لها العقول ومراكز الأبحاث والدراسات، ومن ثم فان أي حديث عن حقوق الإنسان وعن المساواة بين المرأة والرجل وعن حقوق الطفل وما شابه ذلك من نمطيات المجتمع الحديث ستطوى في بلد يقوده الموروث المتمدد بلا ضوابط ولا قوانين.. إن السعي إلى تكريس الهيمنة وربط شيوخ العشائر باليات من شانها أن تضمن الولاء للسلطة، سينسف أيضا التجربة الديمقراطية بأسرها، وسيعرقل بطرق شتى تنفيذ برامج التنمية المعاقة أصلا بالفساد وعدم كفاءة القائمين على تنفيذها وتعدد مراكز القوى خصوصا في المحافظات.. ومن الملفت للنظر أن أيا من أجهزة الدولة سواء الحكومة أو البرلمان لم يفكر أو يسعى إلى استثمار المبالغ التي سوف تخصص للمجالس العشائرية أو بقدر مماثل أو مقارب لها في وسائل ومجالس وهيئات من شانها رفع المستوى الثقافي والفكري كمكتبات محلية في المدن أو مختبرات علمية في المدارس الثانوية كما كانت موجودة أصلا في ستين
التحالف العشائري الانكلواميركي.. خطوة إلى الوراء
نشر في: 23 أكتوبر, 2011: 07:28 م