عماد حسن من بين قصص قيلت أو كتبت سريعاً وأحيانا بتمهّل وتركيز، في الآونة الأخيرة والتي تبقى عالقة في الذهن لفطاريتها وربما لصدقها، واحدة تحدثت عن حلم برحيل جماعي على الأقدام إلى أقاصي الكون. تلك الفكرة الموجودة في أقدم وأكثر كتب الأديان إثارة للدهشة والضغائن على حد سواء، والذي تواطأ البشر على صياغته ونسبوه لشيء لا يملك أن يثبته أو ينفيه. وما يجعل تلك القصة مقبولة وتحتوي على قدر من المعاصرة هو وضعنا ضمن مفهوم الوطن ولا أقصد بالضرورة المكان.
المشهد يبدو سحرياً وعلى قدر من شاعرية غامضة يثيرها قرار الرحيل ذاك. لماذا ترحل الجموع على هذه الشاكلة؟ سؤال لا يجيب عليه (فورست كامب) بالطبع، الهارب من أعباء واقعه الشخصي ومن نفسه إلى حال أكثر عمقاً وانفتاحاً. أي إن رحيله على قدميه ولسنوات كان شكلاً من ترف فلسفي قادته إليه اضطرابات زمنه المشحون بالتحولات. وبعد سنوات حينما توقف فجأة ونظر إلى الخلف، شاهد الجموع التي كانت تتبعه على طول رحلته، لم يدهش كثيراً لكنه قال جملة واحدة فقط: لقد تعبت. اختزلت ذلك التيه الطويل نسبياً مقارنة بتيه أقدم واعقد أنجزه بنو إسرائيل قبل أزيد من ثلاثين قرناً. التيه القديم كان أشبه بوعد من إله ليس لديه الكثير ليفعله في تلك الأزمان، أعطاه، بادعاء مشكوك فيه، لبني إسرائيل على أنهم إذا ما خرجوا من مصر فانه واهب لهم وطنا جميلا ومقدسا سيعيشون فيه وأجيالهم. ليس كما كانوا، عبيداً للمصريين وللبابليين من قبلهم. ذلك الطموح المشروع كما يُعتقد، كان الدافع الأوحد وراء شروعهم برحلة كلفتهم أربعين عاماً من التيه لم نعرف خلالها كيف نجوا، فيزيقياً، من ذلك القفر الشاسع. الرحلتان اللتان أُنجزتا كان لهما ما يبررهما من وجهتي نظر أصحابهما على الأقل. الأخيرون كانوا يبحثون عن وعد بوطن يستطيعون من خلاله إعادة احترامهم لأنفسهم التي سلبها العيش في بلاد الآخرين، والأول يبحث عن معنى غير ممسوك لوطن عاش فيه طوال عمره وحارب من أجله، مع أنها لم تكن حربه. إنها بونراما البحث الطويل والشاق عن فكرة الوطن المبددة بين وجوده كجغرافيا مجردة وبين أعباء استعادته. الحديث عن الرحيل تثيره دائما إمكانية البقاء في فكرة الوطن كما نرسمها نحن أو نتخيلها. هل نستطيع العيش في وطن خال من فكرة المواطنة التي تشترط وجوده أولاً؟ إذ لا وجود لوطن دونها، وهي ما سعى بنو إسرائيل إليها، أي إننا حين نموت، نموت كمواطنين وشهداء، وحين نعيش، نعيش كمهمشين وغرباء. لا أبحث عن جواب، فنحن نستطيع أن نخمنه في نهاية الأمر. الأمر الثاني، هل نستطيع العيش بسلام ضمن موروثات وأساطير وخرافات نُقسر على قبولها لنحقق فكرة مواطنتنا؟ التي تتغذى بالموت أيضاً. أي أن نمارس حرية فكر غير آبهة بالمسلمات المتوارثة، وهذا ما أراده (فورست كامب). دون أن نُقمع أو نُبعد أو نُصفى، كما حدث مع هادي المهدي مؤخراً. ربما كان في رحيل عبد الخالق كيطان الأخير العكسي نحو بلاد الآخرين، فسحة أخرى للتفكير في جدوى أن يكون لك وطن دون حقوق تذكر، وطن أنت مهدد فيه لمطالبك في أن تكون مواطناً في وطن ما، ومهدد به حينما تُعْلن أنك خارج عليه، لأنك تريد أن تصبح مواطناً كاملاً دون اشتراطات يفرضها من يمسكون برقبة الوطن.. قبل أربعة أعوام وتحديداً في شهر أيلول 2007. باغتني عبد الخالق بسؤال لم أستطع بعده النوم بسلام: ما جدوى أن تعيش في غربة بكامل حقوق الوطن وتترك وطناً صار لنا بعد أن كان للاأحد؟ ومما زاد من ثقل السؤال هو ما قاله، بحسه الساخر الذي لا ينضب، صديقنا الروائي حسن ناصر وهو يشاهد مؤيدي النظام السابق وهم يتدفقون إلى الخارج في رحلتهم المشهودة للحلول مكاننا: لقد كانوا هناك ونحن كنا هاربين، الآن هم هربوا فيجب أن نعود. وبين سؤالين كان مصدرهما عبد الخالق نفسه اكتشف كلانا، وربما كلنا، نفس الجواب لكن في أوقات متفاوتة. بأن لا الأرض ولا التراب ولا السماء ولا البيوت ولا الأزقة ولا الأنهار ولا حتى الذكريات هي ما تشكل مفهومنا الحقيقي عن الوطن. أكثر مما يشكلها واقع نريد له معاملتنا كوجود أكثر حقيقة وتجلياً، من مجرد فكرة وطن ليست أقل غموضاً من فكرتنا عن الزمن. وعلى أساس هذا الاكتشاف المتأخر، لكنه حتمياً بالتأكيد، واصل صديقنا عبد الخالق كيطان رحلته (اليوليسيزية) تلك إلى عمّان، المحطة الأولى له في رحيل قديم أخذ كل ما يعول عليه من سنوات العمر، بعد أن سبقه في رحلة عكسية أيضاً صديقنا الشاعر علي عبد الأمير الذي اكتشف هو الآخر أن كل ما خاطرنا من أجله وما فعلناه ما قلناه عن الحرية والجمال والخير والعدل لم يكن إلا حلماً متواصلاً صحونا منه بعد عام 2003، السعيد من بين كل تقاويم سنواتنا الجامحة. في هذه اللحظة فقط وعلى وجه التحديد في هذا المكان من القصة توجد أشد المناطق اشتباكاً مع الوهم، ذلك الذي يكمن في فكرتنا الطوباوية عن الوطن باعتباره مذبحاً لا متناه لأحلامنا وحيواتنا المسكينة. نموت من أجله، نفتديه بأرواحنا، نُقتل في حروبه الكثيرة، نُعدم من أجل عليائه، نُقَّطع، نُذَّرى، نُعّذب، نُشّرد، نعود، نُشّرد مرة أخرى. لكننا حين نطالب أن نكون أبناء شرعيين له، نقتل مرة أخرى!. (الوهم الذي لا يعرف أنه وهم.. ذلك هو الوطن). رحيل عبد الخالق، وربما أصدقاء آخرون في ما بعد، خسران فادح لإرادة الحياة التي رافقته حينما عاد إلى وطنه مليئاً بفرح أسرع عطبا من جناح فراشة قرب النار. لكنه كان كا
عن الرحيل مرة أخرى
نشر في: 26 أكتوبر, 2011: 05:56 م