لطفية الدليمي في غياب دور فاعل للثقافة - باستثناء ما تقوم به المؤسسات الثقافية الخاصة - صار الخوف وعدم الجهر بالفكر والموقف سلوكا غالبا عندنا و صار الجدارالمرئي والجدار الوهمي رمزا للخوف من عدو مجهول أو معلوم ، فهذه دوائر الدولة متخفية خلف جدران الكونكريت التي لم تجنبها اقتحاما إرهابيا ولا انفجار مفخخات ، وهذه المنطقة الخضراء المحصنة بالأسوار لم تسلم من قصف بين حين وحين من قبل أناس عارفين
بمسالكها ومسافاتها ،فتحولت وظيفة السلطة من حماية المواطن إلى الاحتماء منه، فتعذر الحوار والتجاور مع أهل الحكم وتعززت القطيعة الحاصلة أصلا، وترسخت ثيمة الفصل بين الحاكم والمحكوم المتروك لعوزه ومصيره ومخاوفه ... التهمت جدران الكونكريت حلم الحرية ، فلا وجود لحرية مع سلطة الجدار العازل ، ولا حرية أيضا بلا ثقافة حية ومدينة حرة بلا جدران ولاحواجز تعيق تواصل أهلها . وظيفة المدن كما يعلم الناس : أن تدير شؤون الحياة وتنعش الاقتصاد وتديم مراكز العلم وتعزز الثقافة وتقدم الخدمات لمواطنيها وتزهو بإبداعات الفن وتحترم حياة مواطنيها وحريتهم . ووظيفة الشارع أن يكون سالكا لا مغلقا ووظيفة الجسر أن يوصل بين ضفتين لا أن يوصد عند هبوب المظاهرات ، كل شيء صار إلى نقيضه : فالمدينة لا تدير شؤون الحياة بقدر استسلامها لشؤون الفناء،والشارع غدا حيزا معاديا يعرقل حركة الحياة والعمل، وصار الجسر وسيلة انفصال وانقطاع بين جانبي المدينة ...وبفعل سلطة الجدران التي اجتاحت الأمكنة واحتلت العقول، تحولت علاقات الناس من تواصل وحوار ومودة وأُلفة ،إلى خوف وحذر وتربص، لا شيء يجمع بين البشر الآن قدر ما يجمعهم الخوف من بعضهم. بعد أن عززت ثقافة الجدار- التي أوجدتها الاجتهادات السياسية الخاطئة- قوانينها القامعة ، ومسخت سلوك البشر المتحضر إلى سلوك عصور القنص وأخلاقيات الغاب.ثقافة الجدار حلت محل ثقافة النافذة أو الشرفة وانحسرت العلاقات بين الجيران لتتوالد من الجدران الكونكريتية جدران افتراضية داخل النفوس، يغذيها هاجس الخوف وهاجس الثأر، حتى أصبح التواصل والحوار متعذرا بين الذين حجزوا خلف أسوار الكونكريت وأسوار الخوف..ولم يعد هناك دور للشرفات حين سيجت بالأسلاك، وترسخ دور كوى المراقبة الخفية، وحُصنت الأبواب بأبواب مزدوجة من شبك الحديد وتعالت الأسيجة بين حدائق البيوت وجُعلت المروج الخضراء مزقا وأشلاء، وانكفأ كل فرد على وحشته وتعالت أسيجة البيوت على نحو غير مألوف في عمارة بغداد .. ..وكلما تعالت الجدران وشاعت ثقافة القطيعة، ارتد الكثير من الناس إلى أخلاقيات الكهف التي تستدعي الدفاع عن موقع صغير للنجاة دون اعتبار لمصير الآخرين ،وبذا يتهاوى سلم القيم الأخلاقية .وتحل الأنانية محل التشارك بالحياة والمصير .. المدينة إذ تقطع أوصالها، فهذا نذير موتها الفعلي لا المجازي، فلا مدينة تحيا بازدهار الجدران والحواجز ،الحياة تستدعي الحوار والتواصل والتضامن بين البشر، وبغداد صارت بفعل هذا محض غيتوهات محرومة من الخدمات الأولية والثقافية ، الأواصر مقطوعة والمشاريع مترنحة وليس ثمة من أمل وسط هذا العماء الجائح ، فكيف تزدهر الحياة مع ثقافة الغيتوهات ؟ هنا يأتي دور الثقافة في إقامة مراكز ثقافية ونواد ومكتبات عامة ودور سينما ومكتبات أطفال لتعيد للمواطن الثقة التي دمرها العنف والإرهاب وإهمال السلطة ،ولتعزز التواصل في المجتمع عبر المجلة المستنيرة والفيلم والصحيفة والندوة و المسرحية ، ويستدعي هذا إعمار المسارح وإعادة الحياة إلى دور السينما والنوادي والمكتبات العامة ، وبذلك نقف بوجه جائحة التحريم وحظر الحريات الوافدة إلينا من عصر فقهاء التجهيل.
قناديل:غيتوهــات العــزل ودور الثقافة
نشر في: 29 أكتوبر, 2011: 05:46 م