محمد عطوان "المدنية تُدين بنجاحها لقاطع طريق" (ايميل سيوران) نحاول في هذه المقالة أن نتبيّن الطبيعة الاجتماعية لمدينة مثل البصرة من خلال معاينة التحولات الديموغرافية التي تحكمت بنسيجها وعلاقة ذلك بالروافد التي ساهمت في إفراز توليفة ثقافية يتعذر توصيفها اليوم، ومتابعة دور الجماعات الثقافية الوافدة، وقدرتها على تشكيل هذا النسيج، آخذين بعين الاعتبار جملة الظروف الموضوعية التي أحالته إلى نسيج مرتبك لا يرقى إلى مستوى مدينة بالمعنى المعياري للمدينة في الوقت الحاضر.
ولأجل بيان هذا الحال نجد من الضروري إدخال جغرافية هذه المدينة حيز التحليل، فمن خلال معاينة امتدادات شريط الهور ومجرى مياهه واحتضانه لخاصرة عريضة من تخومها، وتسييج مركزها ضيّق المساحة بالمقاطعات الزراعية، والتفاف القرى المحيطة به من كل جانب، يجعل وصفنا لـ "مدينيتها"، وصفا تعريفيا مطلقا، يخيم على معناه الشك غالبا. وهو ما سنلقي الضوء عليه في هذه المقالة. فـعلى مدار قرن من الزمان تحديدا، وأعني به القرن العشرين، قرن بناء الدولة العراقية الحديثة، لم تكن مدينة البصرة وسواها من المدن الجنوبية مدناً حواضرية metropolitan بالمعنى الاصطلاحي والمفهومي للعبارة؛ المدن التي تملك عناصر ومقومات حمائية تمُكنِّها من إعمال فعل الممانعة لصد ثقافات فرعية طارئة، وتحييدها، أو تعمل على استيعابها وإعادة إنتاج مادتها القيمية المركبة للإتيان بتوليفة مدينية مركبة في أقل تقدير. إن بناء المدن لا يقوم عادة على تلاحم حدين منفصلين كما هو الظن الشائع. ولا يصبح أي حد من حدي العلاقة وحدة عضوية تنطوي على دلالة تفرض حضورها، بل تتحول التوليفة نفسها إلى علاقة جديدة بين أكثر من معنى ودلالة، أو بين معنيين ودلالتين معا، وتقوم بينهما صلة تقابل وتوتر.ما هو حاصل إن أغلب المدن العراقية محكومة بسمات المعنى الشكلي للمدينة، والمتبدي في طبائع وأنماط ووظائف تمارسها جماعات محددة تُظهِر تمايزا شكليا عن غيرها من طبائع وأنماط ووظائف التكوينات القاطنة خارج أسوار المدينة. ولا ينصرف مثل هذا إلى معنى المدينة الصناعية التي ظهرت في أوروبا على سبيل المثال والتي يصح تعريفها والإقرار بحضورها، من خلال مجموعة من الظواهر التي تتصل بالحياة المادية للمجتمع، ووسائل تنمية موارد ثرواته، وإنتاج هذه الثروات وتوزيعها واستهلاكها، والتي تضم القيم الثقافية ورأس المال والموارد المتاحة والتنظيم والعمل الذي يتمثل في مهارات الأفراد، وإن تجلى في البصرة من خلال الأنشطة العمرانية والمؤسسات الإدارية التي توسعت والعلاقات الاقتصادية التي تشعبت، لكن لم يكتب لها التواصل والاستمرار في النمو على نحو تطوري.وبلغة أوفى تعبيراً؛ لم يكن في مدينة البصرة حد فاصل يلمح إلى وجود علاقات اقتصادية قهرية واضحة وحادة بالتعبير الماركسي، أو يمكن أن يبلور (الحد) وعيا طبقيا بين الجماعات المتحايثة داخلها، أو ينتج قطائع اجتماعية تُسبِغ على العلاقات بين الجماعات الأخرى طابعا تنافسيا. وهو ما ينطبق على أغلب المدن العراقية أيضا، التي يغلب فيها الطابع الريفي والزراعي "شبه الإقطاعي" للمجتمع. ويبدو ذلك واضحا في سعة الريف القريب من المركز الإداري لمدينة مثل البصرة، لقد كانت طبيعة المجتمع الاقتصادية والاجتماعية مبدِدة لمثل هذا التناقض البنيوي وقادرة على إشاعة الألفة والقناعة مع وجود التفاوت في المنزلة بين القوى المهيمنة من جهة، وقوى الفلاحين والأجراء من الجهة الأخرى. كانت العلاقات بين الأفراد والجماعات داخل المدينة أقرب ما تكون مكسوة بطبقة رقيقة من الحساسيات التي تولدها التماسّات الحياتية اليومية، وبسببها كان يتحفز "التمييز" و"التضاغن". لكن لم يكن يوجد في المدينة نسق صريح قادر على أن يُبقي قيم المدينة فاعلة ويتحكم بقيم الريف وخصوصياته المميزة أيضا، ولم يكن يوجد فيها نسق يصنع تأثيرا وتأثرا نسبيين بين نمطين ثقافيين ليتسنى بحكم الضرورة لأحدهما أن يأكل من جرف الآخر من دون أن يمحقه كليا. لقد كان الفاصل بينهما نفاذا إلى الدرجة التي يسهل فيها على شخص التحكم بسلّم التراتبية الاجتماعية في ظروف التحولات التي تأتي بها الاضطرابات والقلاقل السياسية والاقتصادية، والتي تحدث في المركز على نحو متعاقب، من دون أن يضطره ذلك إلى التخلي عن قيمه في رحاب المدينة. وهنا نتحدث عن النفاذية التي تنشط في ظروف الأزمات. وبديهي مثل هذا التنافذ بين المستويات لم يكن لينشط داخل المدن الكبرى التي تفترض إقفالا صارما تمليه سلطة القوانين الاجتماعية والاقتصادية وحساسية الالتزام بتطبيقها. لذلك فإن مدنا كالبصرة وسواها لا توصف بمقياس التطور العمراني السوسيولوجي إلا في مستواه الجزئي الأولي الأقرب إلى العمران الناقص منه إلى العمران الكامل بالتعبير الخلدوني. ربما كان المظهر العام يضفي على المدينة طابعا مدينيا، لكن ثمة حقيقة تذوي في التفاصيل، وهذه الحقيقة تفصح عن وجود تعارضات وارتدادات بين الحين والآخر تتقاطع مع قيم المدينة والتي تتأجج بفعل الموضوعات السياسية والاقتصادية معا. والذي يُقوي مثل هذه الارتدادات إن البصرة بقيت مدينة تشهد (تمدنات) سريعة، يحاول الأفراد غير المتمدنين فيها أن يتمدنوا تبعا لصعودها المؤقت، إلا أن هذه المدينة لم تُعوِّد البصريين على دوامها كمدينة. كما لم تُعبِّر عن حالة ارتقاء لجماعات ألّفت سياقا مدينيا بعد أن
هل البصرة أدنى من مدينة حقا؟
نشر في: 14 نوفمبر, 2011: 06:57 م