فخري كريم
لا خلاف في ما تعانيه مفاصل الدولة من وهن، مادامت الدولة نفسها، في طور مشوه من التكوين المترهل.
فالشكوى من العواقب الوخيمة للفساد الإداري والمالي في سائرالوزارات وأجهزتها، على تبديد ثرواتنا وتطور البلاد ومستقبلها، ومظاهر التمييز والطائفية واعادة انتاج قيم الاستبداد وتسويق مفاهيمه واساليبه، تقض مضاجع المواطنين،
وترهق كواهلهم المثقلة اصلا بأعباء البطالة وبؤس الخدمات اليومية لحياة بشرأسوياء، وتبعات عقود تسلط الأنظمة الدكتاتورية المتعاقبة، وكوارثها وما نجم عنها من ويلات ومحن.
لكن ما يثيرالقلق المضني في نفوس الكثيرين، ان السلطة القضائية المعنية بتكريس ركن اساسي من اركان الدولة الديمقراطية، دولة القانون والعدالة والحريات ،دولة المواطن السيد، هي الأخرى تتعرض لأشد مظاهر الفتك بقدسية هذه السلطة وحرمتها ونزاهتها واستقلاليتها، التي من دونها تتهاوى الأركان الأخرى للدولة.
ان الأعمى وحده لا يرى أو يتلمس الفساد بأشكاله المختلفة وهو ينخرفي جسد القضاء الذي شب في عهود الدكتاتوريات المتعاقبة وتشرب الكثيرمن قيم وأساليب أنظمتها، وتوارثه النظام الجديد ،ويكفي دلالة، أن آخر عهد للقضاء الموروث، أعيدت هيكلته في ظل النظام السابق حيث أرسيت أسسه وتشبع بالمبادئ والقوانين المتناقضة كليا مع الاعلان العالمي لحقوق الانسان وأبسط القيم الانسانية.
ولايبدو ان الشريحة الواسعة من القضاة والعاملين في سلك القضاء والقانون، من ذوي الأيادي البيضاء والضمائر الحية والعقول النيّرة ، ممن كرسوا انفسهم لتحقيق العدالة وبسط سلطة القانون، يمتلكون القدرة والنفوذ الكافيين، للتصدي للفاسدين وكفالة حقوق المواطنين، وتشذيب القضاء العراقي من عناصر النظام الشمولي الاستبدادي، واعادة بنائه وفقا لمبادئ العدالة والمساواة امام القانون ، والمساهمة في تكريس الأركان الأخرى لتشييد صرح الدولة الوطنية الديمقراطية، واستكمال مقوماته.
وليس اقل شأناً أو أهمية نهوض الجسم القضائي المعافى، بالدفاع دون هوادة، عن استقلالية القضاء التي كرسها الدستور وغفل المشرعون عن وضع الضوابط والآليات التي تصونها وتحميها من أي تدخل أو تجاوز. وهذه الاستقلالية هي الضمان الاكيد لتطبيق العدالة والدفاع عن مبادئها، وبالاستناد اليها، يقام ويتجذر بنيان دولة القانون والمؤسسات والحريات الديمقراطية.
أن القضاء المستقل المعافى، والمكونات الأخرى للدولة الديمقراطية الحديثة، لا تنبثق من الفراغ، أو الارادة الفردية، بل هي نتاج تطور موضوعي تأريخي، ومستوى من هذا التطور، تتكامل فيه بنى هذه الدولة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.
لكن الارادة السياسية المتمثلة في سلطة ذات نزعة ديمقراطية، من شأنها، تحفيز التطوروتنشيط آلياته، في جانب من هذه البنى، وتحويلها الى رافع للجوانب الأخرى من بنى الدولة.
وخلافا لذلك،يلعب الفساد الاداري والمالي، اذا ما استشرى في السلطة السياسية نفسها.... في الحكومة....وفي وزاراتها الخدمية... وفي أجهزتها الأمنية المعنية بحفظ الحقوق وتطبيق القانون، دورا عكسيا، لا يقتصرعلى اعاقة أي تطور لبنى الدولة وتحفيزآلياتها الديمقراطية، وانما يشوه عناصرها المكونة ومضامينها والأسس التي تستند اليها في عملية اعادة البناء، وهذا افتراض ينطبق على ما يجري في العراق اليوم.
أما اذا امتد هذا الفساد الى السلطة التشريعية التي يتمثل جانب هام من مسؤولياتها في الرقابة والتقويم والمحاسبة، فان عملية التطور ومساراتها، في جوانبها المترابطة ،تتداعى وتنتكس وتتذبذب وتيرة بنائها وتتآكل عناصر تكوينها، ثم تنحدرفى نهاية المطاف وهي تشذ عن وجهتها ،ان لم يجر تفكيك الحاضنة السياسية للفساد، ويعاد النظر جذريا في تركيبتها ومقومات بقائها وديمومة نفوذها وهيمنتها على السلطة التنفيذية والتحكم في مفاصلها.
ان غياب دورفاعل للسلطة القضائية، ينعكس سلباً على التطور الديمقراطي في العراق، ويحد من المشاركة النشيطة للمواطنين في الحياة السياسية، وهم يواجهون في حياتهم اليومية، وفي تعاملاتهم مع الأجهزة والدوائر الحكومية على اختلاف مستوياتها ومجالاتها، التعدّيات والخرق الفض للقوانين، والتمييزعلى الهوية والولاءات، وشيوع الفساد والرشوة وشراء الذمم.
وتتجلى فداحة غياب هذا الدور عند المقاربة، لا مع الدول الديمقراطية المتطورة، وانما مع دول اسلامية نامية، تتشابه من حيث الظروف والتقاليد ومستوى التطور مع العراق، مثل الباكستان وماليزيا واندونيسيا، حيث تصدى القضاء، في ظروف استشراء الفساد والعبث بالدستور للحكومة ،ونحاها وحكم على اركان فيها بالسجن،واقصاهم عن الحياة السياسية!
ان ظاهرة الفساد تشغل مساحة واسعة من اهتمام كبارالمسؤولين في الدولة، وقادة الاحزاب والكتل البرلمانية والائتلافات الانتخابية ، وقلما يخلو خطاب أي مسؤول رفيع المستوى، من الاشارة الى الفساد الاداري والمالي، بدءاًًًً من رئيس الوزراء الذي يفيض في شرح أبعاده وعواقبه على بناء الدولة، واعاقة تنفيذ المشاريع الخدمية والتنموية، لكن الاتهامات المتبادلة بين كبار المسؤولين والساسة والنواب عن مسؤولية استمرار الظاهرة واستفحال وبائها، تشتد وتتوسع بين الجميع، دون أن تصيب سهامها أحداً منهم.
ومع اقتراب موعد الانتخابات واستحقاقاتها، تشتد وتتصاعد وتيرة هذه الاتهامات ومظاهرها، دون ان يتلمس المواطن، المغلوب على أمره، أي نتيجة ملموسة أويبدو في الافق ما يبشر بحل.
وفي هذا السياق تظل السلطة القضائية، بتجلياتها العديدة بمنأى عما يدور حولها ، مكتفية بما يحوّل اليها من قضايا ودعاوى، تتعلق في الغالب بتفسير مواد أو قوانين، أواحالة جرائم لا تطال الحيتان الكبار، وهي لا تقترب من تناول مسلكيات قادة الدولة الذين يخرقون الدستورويكيّفونه وفقاً لأهوائهم، ويعبثون بالمال العام من دون وازع أو رادع.
وقد يكون وضع القضاء ودوره خلافا لذلك، لكن المجتمع والرأي العام، لم يسبق لهما الاطلاع على مشهد يعكسه أو يدل عليه.! فلا قرارات هيئة النزاهة أو تقاريرها تجد طريقها الى وسائل الاعلام اوأوساط الرأى العام، ولاعلم لأحد بما يبحثه أو يقرره مجلس القضاء الأعلى، وغيرهما من مكونات السلطة القضائية.
ان ملفات الفساد والرشوة، والتعدي على المواطنين وهدركراماتهم، تضيق بوقائعها الصحافة ووسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمدونات، دون أن تلفت أنظارالادعاء العام أو أي جهة قضائية أو رقابية. وتكفي الاشارة للتدليل على ذلك، الحادثة المروعة التي جرت وقائعها قبل بضعة ايام في منطقة العرصات، في وضح النهار وأمام أنظارالمواطنين ،وكانت ضحيتها مذيعة في قناة العراقية جرى الاعتداء الوحشي عليها وتمزيق ملابسها.
وقد اثارت الحادثة، بما انطوت عليه من مغزى، الغضب المكبوت في نفوس المواطنين، ودفعتهم لتناقلها عبرهواتفهم المحمولة ، وسرعان ما تحولت الى حديث الناس بعد أن نشرتها المدونات وبعض الفضائيات العراقية.
ان الوقائع المتداولة توجه أصابع الاتهام الى الحماية الشخصية لولد أكبر مسؤول في الدولة، وهو اتهام قد يدخل في باب التشهير، اذ لا بد في مثل هذه الحالة، اعتماد أدلة ثبوتية تأكيداً لصحة الاتهام وصدقيته.
ولكن ألا يحتاج ذلك الى تحقيق عاجل من جهة قضائية تتوفر فيها النزاهة والحيادية؟ ثم ألا تحتاج الضحية الى ضمانات بالحماية، مادام الاتهام موجهاً لابن مسؤول متنفذ في الدولة، ايا كان مقامه؟ الا تستحق هذه الجريمة المنافية للقيم والاخلاق السامية للدين الاسلامي، ان تتحول الى قضية رأي عام تهز ضمير المجتمع ،وتنذر حكّامنا الجدد بأنهم لن يكونوا بمنأى عن العقاب الرادع. ثم أين القيّمين والساهرين على المثل والأخلاق الاسلامية، من تمزيق "حجاب مسلمة"وتعريضها للمهانة والاذلال! وأين منظمات المجتمع المدني المدافعة عن حرية وحقوق المرأة..؟
ان الجريمة بحد ذاتها سابقة خطيرة،فهي فعل لا اخلاقي، واعتداء لايدخل في باب الصراع السياسي، أوالفتك بالآخرعلى الهوية، والجاني مارس فعلته الدنيئة أمام الملأ وعلى غير مبعدة من سيطرة امنية، فمن يمكن ان يكون الفاعل .؟
مرة أخرى قد يساق الاتهام ضد ابن المسؤول الكبيربهدف التشهير، ولكن ورود اسم ابن مسؤول كبير يتمتع بقوة حماية ضاربة، قادرة على ترويع المواطنين والمواطنات، يثير القلق و يعكس دلالات وهواجس لا تبعث على الاطمئنان، خصوصاً، وان وثوب القادة السياسيين"الآباء"الى مراكز القرار في السلطة السياسية "للعراق الديمقراطي الجديد"، لم يمض عليه سوى بضع سنوات، في حين احتاج أبناء القادة في الأنظمة الشمولية الى عقود للظهوربحماياتهم وجلاوزتهم ! فأي دلالة أمرّ وأخزى..
ومن الغريب أن "قناة العراقية "وشبكة الاعلام، العائلة المعنوية للضحية، التزمتا صمت القبور ازاء الجريمة، مع أن واجبهما المهني والاخلاقي يفرض عليهما والعاملين فيهما، التحرك في مختلف الاتجاهات لفضح الجريمة والكشف عن مرتكبيها، والمطالبة بانزال العقاب العادل بهم، اما اذا كشف التحقيق عن علاقة ابن مسؤول بالجريمة، فلا بد أن يتنحى الأب ويعزل عن أي مسؤولية مقررة في السلطة السياسية،لكي يصبح عبرة لغيره.
ان الادعاء العام ووزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى ومجلس النواب، منفردين ومجتمعين، مطالبون بالتحرك لكشف الجناة، اذ في مثل هذه الحالة يمكن تبرئة من تلوكه الشائعات، وتستهدفه الأقاويل المغرضة، ان كانت مغرضة حقاً.
أما اللوذ بالصمت، والاكتفاء بما سيكشف عنه الغيب، فليس الا تزكية للجريمة، وتشجيعا على ارتكاب المزيد منها بحق بناتنا وعوائلنا الكريمة.
ومثل هذا الصمت واللامبالاة، تأكيد آخر على هشاشة الدولة ونظامها القضائي!
بقي ان نسأل: هل ان الدستور الذي نص على استقلالية القضاء، وضع الأسس الضامنة لحمايته من تدخل السلطة التنفيذية وتأثيراتها؟