TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > الافتتاحية: مشكلة شبكة الإعلام

الافتتاحية: مشكلة شبكة الإعلام

نشر في: 15 أكتوبر, 2009: 08:39 م

 فخري كريم

تتعرض شبكة الإعلام هذه الأيام إلى انتقادات شديدة من مواقع متباينة من داخل البرلمان وخارجه ومن أوساط إعلامية وحتى من الحكومة نفسها التي كانت الشبكة قد تلقت الطعنات من جراء الصلة بها.

هذه الشبكة، ومثل سواها من الهيئات التي وصفت بالمستقلة والتي جرى تشكيلها بقرارات وقوانين أصدرتها الإدارة المدنية للاحتلال،

هي نتاج لتصورات اختلطت فيها الأوهام بالرغبة في بناء مؤسسات تحتاج إلى صفة الإستقلال في مجالات عملها، والى انضباطها بلوائح مهنية تحكم أداءها ووظيفتها وحتى أسلوب ترشيح واختيار العاملين فيها، ممن تتوفر فيهم المؤهلات والخبرات التي تعينهم في عملهم.

لقد كان امتزاج الوهم بالإرادة تعبيرا متكررا في الكثير من المجالات التي أريد بها بناء دولة عراقية جديدة. فالأمريكان الذين كانوا محكومين بحلم بناء يوتوبيا الديمقراطية في العراق، اذا كانوا فعلاً حقيقيين في ما اعلنوا عنه من مشروع ديمقراطي عراقي الذي هو موضع شك، كانوا يغمضون أعينهم عن كل الظروف الفاعلة في العراق وعن التفكير بمدى أهليتها ومستوى تطورها ونضجها وصلاحيتها لاستحداث بنية سياسية واجتماعية ديمقراطية جديدة منقطعة بالكامل عن البنية الشمولية التي انهدت لتوِّها والتي ما زالت تجد تواصلها في العادات والسلوكيات وأنماط التفكير والأخلاق والعلاقات السارية في الجسد الإجتماعي والسياسي والثقافي في العراق..كانت صورة النموذج الأمريكي هي الجاهزة للتمثل والنقل من بيئتها الأمريكية، بكل اشتراطاتها التاريخية، إلى بيئة عراقية، من دون اعتبار لشروطها التاريخية.

كان هذا التفكير مستهتراً أكثر من كونه طامحاً، وكان يؤدي إلى نتائج فوضوية أكثر من كونها منظمة. وسنكتفي هنا بالاستدلال بما تقتضيه مناسبة هذا الكلام، سنكتفي بالحديث عن وهم بناء جهاز إعلامي مموَّل أو مدعوم من المال العام ويكون قادراً على التوفر على استقلال تام عن السلطات الفاعلة في البلد.

إن الوهم يتكرس من كون الأمريكان في العراق لم يفكروا سوى بالنموذج الأمريكي، لكن هذا التوقف أمام النموذج الأمريكي والإصرار على إعادة إنتاجه، عراقيا، لم يكن يريد أن ينشغل بالتفكير في أن الجهاز التنفيذي هو عراقي وأن بيئة الاشتغال هي بيئة عراقية ما زالت تتهجى مفاهيم الديمقراطية وما زال التدريب الإعلامي والسياسي غير مهيأ بما يكفي لإنجاز الوعد، بنموذجه المتعالي على شروط وجوده وعمله.ثم ان أسلوب التصرف بالمال العام ومن هي الجهة المتصرفة وما هي آلية الصرف التي ينبغي أن تعتمد ما زالت غير واضحة الحدود في حمى الصراع على السلطة وليِّ الأذرع المستمر بين الحكومة والبرلمان.

في هذا التصارع، عملت الحكومة على جعل العاملين في شبكة الاعلام جزءاً من جهاز موظفيها الحكوميين، يخضعون ويتمتعون بالضوابط المالية والإدارية الحكومية، وبهذا أصبحوا جزءاً من الهيكل الحكومي، وقد قبل العاملون في الشبكة، في معظمهم، بهذا الإجراء الذي أنهى استقلاليتهم عن السلطة التنفيذية، وسمح بالتالي للحكومة بالتدخل في تغيير الإدارات بمختلف مستوياتها..وهذا مفصل صغير، ولكنه أساسي للتعبير عن الوهم الذي يقفز على الظروف التي تلتقي فيها مصالح الحكومة ومصالح الموظف الإعلامي في الخروج على قواعد بناء جهاز إعلامي مستقل وممول أو مدعوم من المال العام.

 ومنذ لحظة تأسيسها كانت شبكة الإعلام هدفا لنقد ظل يتكرر بأشكال وغايات مختلفة، خصوصاً أن هذا التأسيس جرى في بيئة فساد مالي ومهني وأخلاقي شارك فيه أمريكان ولبنانيون ومعهم عراقيون.وكان صمت الإعلاميين والسياسيين العراقيين الذين أسهموا بتأسيس الشبكة والمشاركة بإدارتها في شهورها الأولى وغضهم الطرف عن الفساد المالي والمهني (اذا استثنينا الموقف المعلن، بعد فترة، للزميل الإعلامي جلال الماشطة الذي آثر الاحتفاظ بكرامته المهنية والوطنية وانسحب) من أسباب النمو المشوه لهذه المؤسسة التي ( سُخِّرت ) لها أموال لم تسخر لكثير من أكبر المؤسسات الإعلامية في العالم والمنطقة.

ومثل معظم المشاريع الكبيرة والصغيرة في العراق، فقد تقدمت أهداف الفساد المالي على سواها، وكان لابد من أجل تمرير هذا الفساد، من اختلاق وتوفير فرص نشوء فسادات أخرى توفر الغطاء والوسيلة، وكان الفساد المهني هو الأبرز في السماح والانشغال عن الفساد المالي متعدد الجنسية، وذلك ما تم من خلال هيمنة إدارات ضعيفة الصلة بالعمل الإعلامي ، ومن خلال غياب الصورة الراسخة والواضحة للتكوين المؤسسي للشبكة، وعمل تلك الإدارات على تضييع حلقة ارتباط الشبكة بين البرلمان والسلطة التنفيذية وإدارة بريمر، مستفيدةً، بسلوكها الإنتهازي، من أجواء التنافر السياسي واللعب على حبال بيع الولاء وإسداء الخدمات التي تلقى قبولا لدى السياسيين برغم تواضع إمكاناتها ومواصفاتها ورداءة نتائجها على المستوى الاستراتيجي، سواء السياسي أو الإعلامي.

لقد أُضيعت ونُهِبت باسم شبكة الإعلام العراقية مئات الملايين من الدولارات التي لم تجد من يتصدى للبحث عنها والمطالبة بها في أجواء انعدام أو ضحالة الرقابة المالية.لكن الأسوأ من النهب العشوائي والمخطط له أن البلد لم يتوفر بعد هذا على ابسط الاشتراطات التي كان قد وعد بها المؤسسون. كانت الأهداف السامية ممراً لأبشع انحطاط خُلُقي ولتدمير الأهداف السامية ذاتها، صفقات نهب بالملايين قابلها تكديس لمئات البشر الفاقدين، في معظمهم، لأية مؤهلات أو كفاءات فنية أو إدارية أو تخطيطية أو إعلامية.. ولم تَلُح في الأفق أيةُ رغبة حقيقية في تدارك الأمر وإنقاذ ما يمكن إنقاذه والشروع بتأسيس ثانٍ للشبكة على الأسس الأولى التي وُعِدنا بها وارتضينا معها بالإنفاق من مالنا العام عليها.لم تكن مشكلة شبكة الإعلام بأُسسها والمفاهيم التي أُنشِئت في ضوئها..كانت المشكلة تكمن في انحراف السياسة التأسيسية والتنفيذية عن تلك الأسس والأهداف المتوخاة منها.وحتى يجري تسهيل هذا الانحراف كان لا بدّ من الفوضى والتجهيل والترهيب والترغيب الذي شوّه خَلْقَ الشبكةِ ونموها.

لنتذكر أن الشبكة، مثلاً، اعتمدت، وبرضى زملاء إعلاميين، استخدام القوة المسلحة في تغيير إدارة صحيفة الصباح، في سابقة غير معهودة في مثل هكذا مؤسسات وحتى في أية مؤسسات تحترم الحد الأدنى من طبيعتها المؤسسية المدنية.في هذه الإدارة جرى أيضاً تبديل الولاءات السياسية بمئة وثمانين درجة خلال أربع وعشرين ساعة، من موالاة سافرة للسيد إياد علاوي إلى مبايعة انتهازية للسيد إبراهيم الجعفري وذلك في مؤسسة كان يُفتَرض منها التحرر تماما من جميع أشكال الانحياز والمبايعة والموالاة والمعاداة..لكن الشبكة بقيت معبِّرا صريحا عن الأداء المنحاز الذي تغذيه رغبات السياسيين وحاجتهم وتنفذه جهالات الإعلاميين وشراهتهم.إن فاقد الشيء لا يعطيه، وكان الكثير من أجهزة الشبكة التنفيذية يفتقد إلى كل ما قد يعينها على أن تعطي ما مطلوب منها، بافتقارها إلى أساسيات المهنة وجهلها بأخلاقياتها وباستثمارها الوظيفة لمنافع شخصية.

لقد بقيت مشكلة شبكة الإعلام مشكلةً ببعدين: سياسي ومهني.وفي الشق الأول ستكون المشكلة متداخلة ما بين الشبكة نفسها ( من خلال القائمين عليها ) والعمل الإعلامي بشكل عام من جهة وبين الوسط السياسي، الحكومي منه وغير الحكومي والمجتمع بشكل عام وصورة فهمه ومدى حقيقة إيمانه بالعمل الإعلامي في دولة تسعى إلى أن تكون ديمقراطية من جهة أخرى.فلكي يتأسس إعلام حر وملتزم بضوابط المهنة لا بدّ من وجود إعلاميين مؤهلين لهذه المهنة..لكن وجود مثل هؤلاء لا يكفي وحده للتوفر على الإعلام المطلوب..لا بد من بيئة سياسية وأمنية واجتماعية تسمح بهذا التشكّل وتوفر له مستلزمات العمل والنمو. وسيكون دور القوى السياسية الحاكمة والمتنفذة محوريا في تشكيل تلك البيئة، سيتعلق الأمر بمدى أهليتهم، ثقافياً وسلوكيا، للإسهام في صنع مؤسسات وبنى الدولة الديمقراطية، وسيكون مدى تحررهم من نزعة احتكار الإعلام وتسييره على وفق المصالح والحاجات وإخضاعه لتوجيهات وسياسات مسبقة، وعملهم على إسناده ببنية تشريعية تساعده في مهمته، هو المعيار لتلك الأهلية المطلوبة لتحرير الإعلام.

ما حدث خلال السنوات الماضية من عمر الشبكة لا يقدم ما يرضي هذا الطموح، وبقيت الجهود الضعيفة لإعلاميين مخلصين مروا، أو ما زالوا يعملون في الشبكة ولسياسيين حرصوا على استقلاليتها عرضةً للانسحاق تحت قوة التيار الذي تضافرت به جهود الهيمنة السياسية مع وفرة الخدمات الإعلامية المعروضة للبيع..وهو ما جعل الشبكة هدفا مستمرا لانتقادات لن تتوقف مادام معظمها يقفز، هو الآخر، كما الأمريكان على الظروف الموضوعية التي تجعل من التوفر على جهاز إعلامي مدعوم أمرا متعذرا..وفي هذا الحال فان المطلوب هو تفهم ظروف الشبكة ووضع الضوابط التي تعزز من مهنيتها وتحصنها بأقصى قدر متاح من التأثيرات السياسية المتصارعة، وهي أمور تتعلق بأسلوب التمويل وجهة الارتباط  ومستوى تأهيل العاملين الإعلاميين فيها

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram