رياض النعماني الآن..، وبعد أن رحل كائن البسالة الفائقة، والمواجهات الشجاعة والتحديات العالية التي كانت – من بدون وجل – تحاذي الموت، وتضيئه بطاقة الشعر الكونية، ثم تتخطاه بقوة الأمل إلى خيبة حياة تصرّ دائما لا على ترسيخ معنى حياته النبيلة، بل تتلاقفها - بأدوات شرسة، وحصار لئيم - إلى هباء يرفع مقومات الخسارة الى لحظة التمام والكمال.
والآن ماذا بعد هذا الغياب الكامل بنقصان وجود علي الموضوعي الذي يدل على نقصان لن تتخلص منه مدينة الديوانية حتى شروق الفناء على هذا الكوكب؟ هل تلفّت تراب الديوانية إلى الجهة التي حملته في سفره الأخير؟ هل شهق نهرها غضبا واستنكارا لسنوات النكران التي قابلت به وفاءه النادر الذي منح ذلك التراب معنى ومبنى يخلطان ويختلطان على الفكر لفرط ما فيهما من بنفسجية وبخور أعراس؟ وأهدى لها مذاقا لا يمكن العثور عليه إلا في أعالي العناق، وكان عناق علي لترابه كم أهدى لهذا التراب مذاقا لا يمكن العثور عليه إلا في أعالي العناق، وجرب أن يعطيه أمطارا وخيولا ونارا تشعل النار في النار. قليلا من النبل.. قليلا من اللطف يا تراب القبر وأنت تربض على صدر هذا الشاعر الذي انّثَّ لفرط - ما يحمل من عذوبة وشروط جمال – لغة قومه ذات التضاريس القاسية فجعلها فضاء تملؤه الأغاريد والمواسم والأغنيات.. لم تكن لغة القصيدة في هذه المنطقة من جغرافيا الشعر العامي قبل علي تملك كل هذه العذوبة والغنج والبنفسجية والحلاوة التي جعلت هواء الفرات الأوسط كعسل التين، تتقطر منه فتنة ودلال جسد من كونتها الأساطير في بيت الرحيق الذي يرافقها حتى غيبتها في غيوم بخور ليلة العرس. من يعيد للديوانية بعد اليوم بهاءً خلقه لها علي، وظل يسقيه من ضوئه الخاص وماء ريحانة روحه حتى صار سماءً تطل على جميع البلاد من جميع البلاد التي سجن وتشرد، وعاش عمرا من العذاب الفريد فيها ومن اجلها، وضاع ومات من اجلها أبو صمد. هل يموت من يُحيي كل هذه الوثارة والطرب والدفء والحياة العميقة الرائعة في كيان لغة كانت ميتة قبل مجيئه الجميل الى رحابها فيضيء آفاقها ببروق الإبداع الملهم الغريب. من هنا أنا أراه الآن ذلك الفتى الذي يزاول صعوده الآسر إلى قمر في سمائه... يشيع الذهب وينثره من هناك على طرقات تتنور بلؤلؤ يبتكر لنفسه دروبا جديدة تنقذ روح الإنسان وفجر الأرض بقصائد لا تموت، يبدعها فحل الوعول الخالد ويدونها بالمسك على بطن غزالة حارة أيقظت في الله قدرة أخرى وشهوة مختلفة على الخلق العظيم. هل سيموت المبدع؟وإن مات فأنه لا يموت، وسيظل يملأ الوجود بوجود أعلى وأجمل، سيبقى يجدد الحياة ويفجر فيها إمكاناتها الكبيرة وأغنياتها الخلاقة، وسيدوم ما خلّفه من مبدعات تسبقه الى المستقبل الأكيد رافعة إياه قنديلا يضيء بوابات الآتي والبعيد.. انه المستقبل الذي لا يعرف الانتهاء او الذبول. انه الشاعر علي الشباني ذلك الفتى الذي يقف على بوابة الأبد يأخذ العطر إلى وردة، والمطر إلى أعراسه والحب إلى مواعيد وصوره الجديدة البارعة... انه الشاعر المبدع الذي يعيد البداية إلى بدايتها الدائمة المطلقة، ومطلعها الذي لا ينتهي حين ينتهي إلا بمطلع وشروق جديد تسبح فيه الارض والسماء بأفراح بها مهر الأعراس، حاملا معه المطر والبشارة والحقول التي تقف على أبواب العراق."بهداي مشي المهر.. كبل المطر بهداي"
والآن.. ماذا بعد هذا الغياب؟
نشر في: 25 نوفمبر, 2011: 06:15 م