TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > قناديل :محو الهويّة وثقافة الاندماج

قناديل :محو الهويّة وثقافة الاندماج

نشر في: 3 ديسمبر, 2011: 07:20 م

 لطفية الدليمي المدمنون على  قتل المباهج  سادة الحروب  من طغاة أية سلطة   وساديو الحضارة، الذين لا بديل لديهم  عن الحرب سوى الانتحار بحروب أخرى،  يحاولون إدماج البشر في صيغة واحدة  لا تفرّد فيها  ولا امتياز شأنهم شأن المتشددين  الذين يقسرون الناس على العيش ضمن  نمط  واحد يقررونه   على البشر، وكأن الناس  رعية أو أقنان مملوكون لأهل العقائد والأيدلوجيات وأرباب السلطة سياسية أو دينية،
وتعمد  كل  سلطة مهيمنة  في العالم  إلى  إعادة صياغتك وتشكيلك حسب رؤيتها الواحدية للإنسان والعالم  ، وإن قيّض لك أن تعترض وتتمرد  فلسوف تجدك ملقى في عراء الوحشة ومنبوذا من أولئك وهؤلاء.. يحدث في المنافي  الأمر ذاته بل هو أقسى وأشد  وطأة،  ففي المنافي  يقسرونك على الاندماج  والتغير واكتساب عادات مختلفة ،ويطالبونك بأن تغير إيقاع روحك  بإلغاء كل ما أتيت به من أثقال تكوينك الأول ، أن تنسى وتمحو رواسب  مجتمعك في قرارة العقل وعمق الروح  ، وعليك أن   تذوب في الجماعة الجديدة  متخلّياً عن ذاكرتك،  فلا هنا وجدت نفسك،  ولا هناك  عرفت من تكون ، ويقسر المنفي والمتغرب على محو ذاكرة أمسه  وعليه  تقبل الانمساخ  لتقمّص شخصية افتراضية جديدة  تقف على برزخ قلق  بين  ذاكرة راسخة  يتطلب محوها  مكابدات وعذابات ، وبين مخيلة ممتحنة  تحاول  أن  تستوعب  التعديلات المطلوبة وتحاول  أن تتجرعها فتفشل غالبا .تجربة المنفى تجربة  اقتلاع وإعادة زراعة – بوسع النبتة الصغيرة التي لم تمد جذورها عميقا في أرضها  أن تنبت جذورا في التربة الجديدة – وقد تورق وتزهر  وتتأقلم – غير أن الشجرة  الناضجة  تصعب إعادة إنباتها في  تربة غريبة  وقد تمد  جذورا واهنة برهة زمن لكنها تتهاوى  على نحو مباغت.وكذلك نحن الكبار الذين  أرغمنا على مغادرة  بيئتنا  بعد أن  تكونت مفاهيمنا  وترسخت جوانب شخصياتنا   واتخذنا  مواقف فكرية مستندة إلى معطيات ثقافتنا وتجارب عيشنا  في مجتمعاتنا ، وقد واجهت تلك اللحظة المروعة عندما حصلت على إقامة عشر سنوات في فرنسا وجواز لاجئة ،ولكني قررت  مغادرة فرنسا في اليوم ذاته  حين دعيت  لحضور اجتماع  يهيّئ اللاجئين للاندماج في المجتمع الجديد ، كان معي خليط  بشري  من جميع القارات والأجناس  :عاملات تنظيف وطلاب  وعاطلون وأفاقون  وناشطون،   وبدأ المحاضر مادته بأسئلة  عن فرنسا  وتاريخها وشعار ثورتها المتخذ دليلا لحاضرها، وشكل علمها  ونشيدها الوطني وقوانينها ، ثم مضى يفصل القوانين وحقوق المواطن ومتطلبات الاندماج : أن ينسى المرء ما يتعلق بمجتمعه الأول  وينسلخ تماما  ويتبنى عادات جديدة وسلوكيات مختلفة، كانت معنا سيدة مغاربية ، سألها المحاضر ماذا ستفعلين  لو تحرش بك رجل  في المترو؟ رفعت السيدة حقيبة يدها  وقالت  سأضربه بحقيبتي  – قال المحاضر هذا يعد خطأ كبيرا واعتداء على مواطن، عليك أن تقدمي شكوى لدى البوليس- قالت  والرجل  ألم يعتد عليّ؟  ألستُ مواطنة ؟سينزل من المترو وأذهب إلى البوليس ولن يجدوه ويضيع حقي – قال المحاضر عليك أن تذعني لثقافة هذا البلد وتنسي  ما تمليه عليك ثقافة بلدك  – ضحكت السيدة وقالت – لن اقتنع بقانون يبيح للآخر الاعتداء عليّ دون أن أدافع عن نفسي  –  قال لها الرجل :لابد من تغيير منظومة تفكيرك  هنا  في ما يخص مفهوم  رد الاعتبار، فالقانون كفيل  بحماية حقك  – لابد من أن تتغيري وتتبني  ثقافة مجتمعنا ، انسي تقاليد وطنك الأم وكوني شخصا جديدا – في تلك اللحظة اتخذت قرار المغادرة  إلى بلد لا يطالبني بمحو الذاكرة ونسيان ما تشكلت منه شخصيتي وثقافتي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram