TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > كلمات عارية :أسوأ مدينة للعيش

كلمات عارية :أسوأ مدينة للعيش

نشر في: 16 ديسمبر, 2011: 09:45 م

 شاكر الانباري قبل أيام زرت بيت المعماري العراقي قحطان المدفعي، وفي نيتي إجراء حوار معه حول معالم بغداد وتجربته في التصميم، التجربة التي بدأت منذ الخمسينيات ولم تنته حتى اليوم. وكنت في الطريق أقرأ في الجريدة الخبر الذي يقول إن بغداد هي الأسوأ للعيش من بين مدن العالم.  ليس من السهل العثور على بيته،
 الواقع في شارع المغرب، وسط بغداد. الباب الحديدي الصغير، يختفي وراء صخرة عملاقة عليها آثار نحت قديم، وخلف الصخرة قطرة حجرية زرقاء لها بعد صوفي. لكن ليس الباب وحده الذي يصعب العثور عليه، البيت أيضاً، إذ تخفيه عن الأنظار محال عديدة متناثرة أمامه، يطغي على كل ذلك ضجيج السيارات، ونداءات لصبية يلاحقون الحمام الداجن وهو يطير في سماء بغداد. وهذا ما يعطي الانطباع أن بيت قحطان المدفعي، أشهر معماريي بغداد، قد فات أوانه. العاصمة تعيش في زمن آخر. وتعيش إيقاعا يختلف عن ذلك الذي خبره المدفعي منذ الخمسينيات وحتى الآن. تغيّرت بغداد كثيرا، وكذلك تغير المدفعي بعد أن عبر الثمانين من العمر. الحقيقة التي لا تخفى هي إن الدخول من ذلك الباب الصغير، دخول إلى تاريخ بغداد المعاصرة، هويتها، وروحها وتاريخها القريب. الحديقة الأمامية تصنع حاجزا بين ضجيج الشارع وهدوء البيت بواجهته الزجاجية وممراته الضيقة. الرجل الضخم، بملابسه العادية، ترتسم على وجهه دائما ابتسامة صغيرة، عادة ما تكون أشبه بعتبة دخول إلى المكان. الأبهاء والصالات مزينة بلوحات لرواد الحداثة التشكيلية في العراق كنزيهة سليم وشاكر حسن آل سعيد وجواد سليم، ويمتلك المدفعي لوحات رسمها هو نفسه خلال سنواته الماضية وتجاوز عددها الثمانين لوحة، في حين تكتظ المكتبة بمئات الكتـب. الرجل الثمانيني الذي ما زال منتصب القامة، ورغم انه يمشي بهدوء إلا انه اعتاد على ان يجلس على كرسي مكتبه يصمم المشاريع، ويبتكر الأشكال. مشاريعه المحفوظة في الأرشيف لم ينفذ منها سوى ثلاثين بالمئة كما اخبرني، إلا انه بقي، وطوال خمسين سنة، علما من أعلام العمارة الحديثة. قحطان لا يشعر أن بغداد أصبحت هي الأسوأ للعيش، فمحيط حركته اقتصرت على المكتب، والحديقة الصغيرة، وضوضاء شارع المغرب. وأحيانا قسم الهندسة المعمارية في جامعة بغداد. أرشيفه كله، الذي يحتوي على مخططات ومشاريع وكتب وسلايدات وصور قدمه إلى جامعة بغداد، وقسمه المفضل المعماري، لكي تستفيد منه الأجيال الصاعدة. الأجيال التي لم تعد تذكره إلا فيما ندر. كما إن القسم ذاته يقوم بتأليف كتاب عنه، وهذا يمنحه حسب ما قال، راحة نفسية كبيرة. لكنه اليوم، وكما أكد، يشعر وكأن الحياة تضيق عليه، والعمر له حقوقه على الجسد. طوال ثلاث جلسات مع المدفعي ظل خلالها دائب الحديث عن بغداد وأيامها الخوالي. فسّرت هوسه بهذه المدينة انه يعشقها بشكل لا يمكن لشخص مثلي الوصول إليه. وهذا ربما ما جعل المدفعي يبكي وهو يحدثني عن أحوال بغداد في الوقت الحاضر، بغداد التي لم يعد يعرفها على رغم انه من مهندسيها الأوائل. وهو الأمر الذي يفسر، قليلا، السبب الذي جعل من بغداد أسوأ عاصمة للعيش من بين كل العواصم. أليس من حق معماري بغداد أن يبكي، إذن، على حالها؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram