أوس عزالدين عباس حين نتناول الديمقراطية بالنقاش والبحث في عالمنا العربي الآن لاينبغي أن يغيب عن أذهاننا إننا نتحدث عن نبتة وليدة، تنمو بحذر في تربة غير ممهدة لها، وليس شجرة متكاملة الأغصان، راسخة الجذور في أعماق تربة الثقافة العربية السائدة.وإذا كنت قد أشرت إلى أن الأساس العام لأي منهج ديمقراطي لايمكن أن يشيد بطريقة سليمة إلا في تربة صالحة لنمو الحرية التي ينبغي أن يتمتع بها المواطن، بحيث تتوافر
له الإرادة الحرة التي تمكنه من معرفة ما يريد، وأن يمتلك الحرية التامة في اختيار مايريد، كشرط أساسي ومبدئي لأي ممارسة ديمقراطية، وإن نتاج هذه الحرية لابد من أن يكون يقين الفرد الكامل في التعددية، وإن اختياره ما يريد لايعني نفي أي اختيار آخر لشخص أو جماعة سياسية كانت أو اجتماعية.وبالرغم من الخطابات التي تؤكدها الحكومات العربية قي الدول التي تعرضت للتغيير أخيرا في حرصها الدائم على الديمقراطية، وبالرغم من تعارض الممارسات مع هذا الخطاب عبر القوانين الاستثنائية والممارسات التي تستعير وسائلها من التظم الدكتاتورية، لا من النماذج الديمقراطية، فإن أغلب تلك الحكومات قد حرصت على أن تزين الخطاب بهياكل مستعارة من الثقافة الديمقراطية مثل وجود البرلمانات، والدساتير، وأحزاب حكومية ومعارضة، كما هو الحال بالنسبة لمصر مثلا، والتي تمتلك مثل هذه المؤسسات ذات الطابع الديمقراطي منذ حوالي ستين عاما، وكذلك الأمر بالنسبة في تونس واليمن وسوريا، وغيرها، لكنها في الممارسة العملية ابتعدت عن النهج الديمقراطي واكتفت بالإطار الشكلي لهذه المؤسسات وطوعتها لتأمين سياستها لتؤكد لنفسها إن كل ممارساتها مبررة بالوسائل الديمقراطية المتعارف عليها.إن مثل هذه الديمقراطيات الشكلية هي ما تمردت عليها الشعوب العربية اليوم في إطار سعيها للتغيير والمطالبة بالحرية والحقوق التي تساوي بين جميع المواطنين بلا تمييز. إن تلك المؤسسات الشكلية الديمقراطية، على مدى أكثر من ستين عاما لم تعمل على ترسيخ ممارسات ديمقراطية حقيقية، وانتهجت الكثير من وسائل الالتفاف على رغبات المواطنين ومطالبها وحقوقها، بل تعود أيضا إلى إن مفهوم الديمقراطية في الحقيقة ينبغي له أن يغير الكثير من القيم والأعراف السائدة التي تشيع الآن في مجتمعاتنا العربية كممارسات اجتماعية، بينما تتعارض في طبيعتها مع جوهر المفاهيم التي تتأسس عليها الديمقراطية، ولذلك فإننا نرى اليوم في الكثير من البرلمانات العربية تحوّل تلك المؤسسات إلى سلطة أخرى فوق الشعب تشرّع ما يتوافق مع رؤيتها هي وما ينسجم مع رؤية ومصالح السلطات الحاكمة، وليس رؤية ومصالح الشعوب الحقيقية. إن تلك الديمقراطيات الشكلية السائدة في العالم العربي الآن لم تؤد إلى إنتاج قيم وأعراف ما قبل الديمقراطية وقيمها الحضارية كقيم المساواة، وعدم التمييز بين البشر في الدين والجنس واللون.وإن ما نشاهده اليوم من بعض الظواهر في مجتمعات تمكنت التخلص من حكم الفرد في العراق وتونس وليبيا، مثلا، فإنها لا تؤشر البديل الديمقراطي والمساواة في الحقوق الثقافية والاجتماعية والسياسية، بل ربما هناك مؤشرات لا تخطئها العين الثاقبة تشير إلى التراجع عن بعض المكاسب الجماهيرية التي تحققت في زمن ما قبل إسقاط هؤلاء الحكام الديكتاتوريين، وخاصة في نبذ الطائفية والمذهبية، وفي مجال حقوق المرأة. إن الديمقراطيات الغربية التي أسقطت الإقطاع ونظامه السياسي، ونجحت في تحويل المجتمعات إلى نظام ديمقراطي، والتي ساهم في تشكيلها العديد من رجال الفكر والعلم والفلسفة وغيرهم، فإنها قد أدت إلى الكثير من التغييرات، ليس فقط في الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكنها أدت أيضا إلى تغييرات عميقة في البنية الفكرية والثقافية في المجتمعات الغربية، وهذا هو الجوهر الحقيقي للتحول الديمقراطي.إن ما ينبغي تأكيده في بحث سؤال مستقبل الديمقراطية في المنطقة العربية بالذات يتعلق بالكيفية التي يمكن أن تتحقق بها هذه الديمقراطية، بحيث تتوازن مع المشكلات الفادحة التي تتسبب فيها كل من ظاهرتي الفقر والأمية على المستويين الثقافي والاجتماعي، خصوصا من يعرفون في أغلب المجتمعات العربية بكونهم متعلمين، وممن يقرؤون ويكتبون، والذين يخضعون اليوم للقبول باجتهادات وفتاوى في شؤون حياتهم الحديثة التي لا تتناسب على الإطلاق مع عصرنا الحالي ومتطلباته ومنجزاته، فهل يمكن أن تترسخ الديمقراطية في مجتمعات تشكلها مثل هذه الذهنيات ؟ وهل يمكن لمثل هؤلاء الأفراد أن يحققوا شيئا ولو بسيطا من الديمقراطية في المجتمعات لتي ينتمون إليها ؟إن هذه القضية ترتبط بأحد أهم الخطوات التي تنتظرها كل المجتمعات العربية التي شهدت انتفاضات التغيير والمطالبة بالحرية مؤخرا، وهي الخطوة المتعلقة بإنشاء الدساتير، والكيفية التي سوف تصاغ بها تلك الدساتير الجديدة، وللقوى السياسية والفكرية والثقافية القادرة على إدارة تلك المجتمعات، وقيادتها إلى بناء حياة ديمقراطية سليمة قابلة للنمو والازدهار.فإحدى الإشكاليات التي تعانيها الذهنية العربية في عالمنا العربي إجمالا، هي إن التراث السياسي والثقافي الممتد على مساحة عشرات المئات من السنين الماضية تحوّل إلى ما يشبه القداسة، التي هي خارج النقاش والبحث وإعادة التحليل.هذا التراث الذي أنتج
قيـادة الدساتيـر الجديدة إلى بناء ديمقراطية سليمة
نشر في: 17 ديسمبر, 2011: 08:07 م