بغداد/ المدىداخل بيته المتواضع والفقير من كل شيء ... جلس (ح) بعد أن تجاوز الستين من عمره يرتشف استكان الشاي وحده في غرفة النوم ... يتحرك داخلها بصعوبة... فقد نالت منه الشيخوخة ما نالت ... ذكريات وأحداث كثيرة مرت في حياته تتداعى إلى خواطره رغما عنه
... تهزمه ... يستسلم للدموع التي تنساب من عينيه حتى يغلبه النعاس !.. تلك صورة للواقع الحزين الذي يعيشه الأب المسنّ خلال السنوات السابقة ... فقد كان موظفا كفوءا تدرج في وظيفته حتى بلغ سن التقاعد وأحيل إلى التقاعد ... كان زوجا مثاليا ... يحب بيته ويحترم زوجته وأولاده وبناته... وفر لهن كل سبل الراحة حتى تخرجوا من الكليات والمعاهد ... والتحقن بوظائف مختلفة ثم تزوجوا ... لكن زوجته وأم أولاده رحل عنها ربيع الحياة وهاجمها الخريف ... خلافات ومشاكل لا تنتهي ... ما يمر يوم حتى يتشاجر الزوجان ... لم تشفع لهما سنوات العشرة الطويلة ... استحالت الحياة بينهما ... مضى كل من الزوجين في طريق ... لكن الزوجة طرقت أبواب المحاكم لترفع على زوجها دعاوى نفقة امتدت سنوات !... أما الأولاد فقد وجدوا أنفسهم حائرين بين اعز الناس إليهم ... ماذا يفعلون ؟... معقول الأب وألام ينتهي بهما قطار الحياة بعد كل هذا العمر الطويل ... وقد فشلوا في وضع حد لهذا الصراع ؟... موقف صعب جدا ... التجربة زرعت داخل نفسية (ح) إحساسا بالوحدة ... وخلافا لمحنته فقد استأجر بيتا عتيقا وانتقل إليه ... أولاده يسألون عنه بين الحين والآخر ... لكن معظم الوقت كان يعيش وحيدا وهو في سن أحوج ما يكون فيها غالى الرعاية والحنان ... يريد أن يختم ما تبقى من حياته وهو مطمئن على أسرته ... احد أقربائه رق قلبه لحاله ووحدته فنصحه بالزواج ... ولم لا ؟ فهو في حاجة لمن ترعاه وتسهر على راحته .. بالفعل عثر (ح) الرجل العجوز على سيدة فاضلة ... تزوجها ... بدأت تخفف عنه الكثير من رحلة الأحزان ... تهون عليه عذابه .. تقنعه بأنها مرحلة وستنتهي ... تحثه على أن يتعامل مع الجميع بصدر رحب وألا يخسر أولاده ... فهم معذورون ... لا يعرفون ماذا يفعلون مع اقرب الناس إليهم ... الزوجة الجديدة ساعدت على تحقيق هدفها بوصول طفلها الأول منه ... فحلت اكبر فرحة في حياة الأب ... فلأول مرة يفرح هذه الفرحة بمولود بعد هذا العمر الطويل ... الطفل الرضيع ملأ حياة والده ... كان الوردة الوحيدة وسط بستان الأشواك ... تمنى أن يمد الله في عمره حتى يؤدي رسالته مع ابنه !... لكن شاءت إرادة الله بالعكس ... وسط فرحة الأب ... سقط الطفل الصغير مستسلما لآلام المرض الخطير الذي ألمّ به ... طاف به الأب عند اكبر الأطباء ... وما هي إلا أشهر قليلة حتى اسلم الصغير روحه إلى بارئها !... رحلت فرحة العمر ... وحلت محلها صدمة العمر ... أحزان الدنيا كلها هبطت على الأب المسن ... ساءت حالته النفسية ... لم يصدق انه فقد نور عينه في لحظة ... ولن يراه مرة أخرى ... استسلم (ح) لبعض أطباء الأمراض النفسية والعصبية لعلاجه من حالة الانهيار العصبي التي تمكنت منه بسبب أحزانه على صغيره !.. وكأن الظروف التعسة ما زالت تأبى أن تترك الأب العجوز ... وترحم شيخوخته ... تجددت أحزانه وغضبه من أولاده لعدم سؤالهم عنه ورعايته بعد أن سمعوا بوفاة ابنه الصغير ... حتى فوجئ في أحد الأيام بإحدى بناته تطرق بابه لتطمئن عليه !... تجهم وجهه وهو يستقبلها ... ثم بادرها ... ( هسه فكرت بأبيك وجئت لزيارته ) ... قالت له ... وهي تضحك ... (عمري لم أنسك يا أبي ... أنا احبك وجئت بعد أن سمعت بحالتك الأخيرة !... وأنت في قلوبنا رغم مشاكل الحياة ) ...حوار طويل دار بين الأب وابنته ارتفعت حرارته في آخره ... عندما واصل الأب اتهامه لابنته بأنها تساند أمها ضده ... وشهدت أمام أقربائه بأنه كان يضربها ... الأمر الذي ترك في نفس الأب جرحا كبيرا لم يستطع نسيانه ... حاولت الابنة أن تهدئ من روعة وهي تدافع عن حقوق أمها المتمثلة في عدم حصولها على أي مبلغ منه كنفقة تعيش منها وإنها بدون مورد ... لكن الأب يعود للثورة ... ترتعش يداه وهو يوبخ ابنته ... تحظر زوجة الأب من المطبخ مسرعة على صوته المرتفع تضرب قلبها بيديها عندما وجدت زوجها العجوز وهو يمسك بسكين كبيرة ويهدد بها ابنته ... يداه ترتعشان بها ... ثم رفعها ليهدد بها مرة ثانية ابنته إذا لم تسكت عن تأييد أمها ... تندفع زوجته الثانية تجاه زوجها لتهدئ من روعه وتنزع منه السكين ... لكن يصر الأب العجوز ويرفع السكين مرة ثانية بوجه زوجته ويطعن بها صدرها .. لتسقط على الأرض مضرجة في دمائها وسط ذهول الأب وابنته ... يتكهرب الجو ... يتجمع الأهل والجيران ينقلون الزوجة إلى المستشفى .. تدخل الزوجة ردهة الطوارئ ... يدخل عليها ضابط التحقيق ... ولكن لم يتمكن من اخذ أقوالها فهي مصابة بتهتك في الثدي الأيمن !... الشرطة ألقت القبض على الرجل العجوز الذي كان منهارا غير مصدق ما حدث ... تدخل الأهل واقنعوا ضابط الشرطة بالصلح والتراضي والتنازل عن الدعوى بعد أن جاء والد الزوجة الثانية ودفع ( المقسوم) إلى ضابط الشرطة ... خرجت الزوجة إلى بيتها بعد أن بقيت في المستشفى أسبوعا كا
فقدان الحب والحنان يدفع الإنسان أحياناً للقتل !!
نشر في: 23 ديسمبر, 2011: 05:30 م