فخري كريم
لا يقصد بهذا العنوان التشكيك بالصفة الوطنية للقائمة البرلمانية (العراقية)، فهذا خارج اهتمام المقال، ناهيك عن أن صفة (الوطنية)
بقدر ما هي واضحة وضوح الشمس باتت ملتبسة ومطاطة وقابلة لتأويلات مفتوحة، ما دام الجميع يدّعون وصلاً بليلى.
ما يريد هذا العنوان الإشارة إليه والبدء منه هو مدى جدية البرنامج الذي تقدمت به (العراقية) قبل الانتخابات وأعلنت بموجبه أنها كتلة عابرة على كل التمثيلات المذهبية والدينية والعرقية والمناطقية، إنها قائمة العراقيين، كل العراقيين.
لم تكتف (العراقية) بمثل هذا الإدعاء العريض، وإنما (نجحت) أيضا في الإتيان بمرشحين متنوعين فعلا في (أصولهم) المذهبية والدينية والعرقية والمناطقية، وبهذا نجحت في الحصول على أصوات متنوعة المرجعيات والمناطق، لكن بقيت أصواتها الأساسية التي أهلتها لتكون القائمة البرلمانية الأكثر عددا هي أصوات محددة بطيف محدد، وهذا ما وضع (العراقية) في واحدة من أكبر مشكلاتها جوهريةً.
لقد اختارت (العراقية) أن تقف خلف السيد إياد علاوي رئيساً لها، في محاولة لتأكيد صفتها الوطنية غير المكترثة بالصفات الأخرى (باعتبار الصفة المذهبية لعلاوي) حيث وقفت إلى الخلف منه جمهرة واسعة من القيادات (بصفة مذهبية أخرى)، لكن المآل الذي انتهت إليه (العراقية) أكد أن هذا المظهر الوطني هو مظهر مختلّ المعنى، ربما أدى مفعوله في ظروف الانتخابات وما قبلها، فيما كُشف عنه الغطاء بعد تقاسم كعكة الفوز وبعد انكشاف البرنامج الحقيقي لكتلة (العراقية) التي تَركّز كل جهدها من أجله طيلة أشهر عملها الحالي، في البرلمان والحكومة واللقاءات والاجتماعات الدائرة في البلد وخارجه.
مبدئيا، ظهر أن (العراقية) هي الوريث لقائمة (التوافق) في الدورة البرلمانية السابقة، بمعنى ادعائها تمثيل مكون مذهبي عراقي معين (ولنقل بوضح ادعاء تمثيل العرب السنة) والمحافظات التي يتكثف فيها أبناء هذا المكون.. هذا هو المظهر المبدئي، لكن حقيقة ما يجري في عمل و(نضال) نواب كثيرين ومعظم قيادات (العراقية) البارزين، هو تبنّي قضية الدفاع عن البعث من خلال اعتبار إلغاء اجتثاث البعث قضية مفصلية قلما تغيب عن اجتماع مع الأطراف الأخرى داخل العملية السياسية، سواء في تبني مطالب هذا (البعث) أو في الدفاع عنه وعن مجرميه المتورطين بأذى العراقيين وخراب العراق.. وفي كل هذا هم غير معنيين بالبسطاء من العراقيين الذين أرغموا على الاندراج في سياسة تبعيث المجتمع والمؤسسات، فهؤلاء الضحايا خارج دائرة اهتمام (العراقية)، وربما كان سيفيد (العراقية) إذا ما ازداد حجم الضرر اللاحق بهذه الشريحة المسكينة، ويساعدها في زيادة مساحة القطاع الذي تشتغل عليه، وهو قطاع البعث الصدامي الذي لم تتورع قيادات في (العراقية) قبل الانتخابات في إطرائه والثناء عليه، وذلك ما دفع بالآخرين، وضمن حسابات انتخابية مخطوءة، إلى اجتثاث صالح المطلك وظافر العاني، قبل أن تعيدهما مصالح ما بعد الانتخابات إلى العمل السياسي الشرعي وتلغي اجتثاثهما.
لقد انكشف الغطاء الوطني لـ(العراقية) عن واقع آخر في أثناء تقاسم الكعكة الانتخابية، حينما أخذ (كبار) العراقية المناصب الكبيرة في (حصة) الكتلة وترك منصب وهمي هلامي غير دستوري لزعيمها الذي ترك وحده منشغلا وشاغلا للآخرين بهذا المنصب الذي صيغ بما يشبه الفتنة الموقوتة، لتمرير صفقة تشكيل الحكومة التي مررت، وبقي منصب مجلس السياسات ضائعا بين حلاوة الألسن ومرارة الوعود التي تقبلها علاوي وحده صامتا فيما ذهب زملاؤه في (العراقية) منصرفين عنه وعن مجلس السياسات وعن الزعامة الموهومة للكتلة مقتنعين بما رزقتهم به المحاصصة.
لم تطرح (العراقية) أي برنامج وطني، مقبول "يشكل قاسماً مشتركاً" سواء للإصلاح السياسي أو للإصلاح الخدمي.. كان هذا خارج دائرة اهتمام الكتلة التي بقيت تشكو وتتذمر أكثر مما تفعل.. لكن شكاواها وتذمرها انصرفت إلى هدف وحيد هو إعانة (البعث الصدامي) والتبرم من (اجتثاث البعث).. وكانت الكارثة الأدهى هي في تصوير هذا العمل على أنه حاجة المكون السني وشغله الشاغل، وكما لو كان البعث الصدامي هو السنة والسنة هم وحدهم البعث الصدامي. وهو خطأ كبير تدحضه قوائم المجتثين وهوياتهم المذهبية.
لقد قلنا في مستهل هذه الافتتاحية أننا لسنا بصدد التشكيك هنا في وطنية (العراقية) ورجالها، لكننا لا نستطيع منع أنفسنا من التفكير بالدعم الهائل الذي أتيح لـ(العراقية) قبل الانتخابات من أماكن أخرى هي غير المكان الوطني العراقي.. لا نستطيع ألاّ نفكر بالمال السياسي الخليجي ولا نستطيع ألاّ نفكر بالرعاية التركية لتشكيل (العراقية) ولا نستطيع أن ننسى الماكنة الإعلامية الهائلة التي كرست كل جهدها من اجل هذه الكتلة.. وكل هذا لا يمكن أن يكون بلا ثمن.. كل دولة تهب وتساعد في ضوء ما تمليه مصالحها وحاجاتها، ولا نحسب أن هذا غائب عن بال سياسيي (العراقية) الذين يصرون على أن يفهم العراقيون كتلتهم على أنها (عراقية) فعلا، بمعنى تمثيلها لمصالح عموم العراقيين وليس تشكيكا بوطنيتها طبعا.
لقد أخفقت (العراقية) أخيراً، مثلا، حين هبت من أجل الدفاع المسبق عن أحد ابرز رموزها، السيد طارق الهاشمي، فلم ينتظر سياسيو هذه الكتلة المتعجلون دائما ليعرفوا أي شيء فبادروا فورا إلى تأكيد براءة زميلهم وجماعته، متهمين الآخرين بالتسييس.. نعم ربما كان هناك شيء من التسييس في الإعلان عن الاتهامات.. لكن ماذا يسمي جماعة (العراقية) الدفاع المسبق عن متهم وبلا أية حقائق ممسوكة باليد إن لم يكن دفاعا مسيسا؟ لم يكلف هؤلاء أنفسهم حتى توكيل محام ليطلع على الأوراق التحقيقية قبل أن يسيئوا لإجراءات التحقيق ويعكروا الجو السياسي في البلد جنبا إلى جنب أولئك الذين أعلنوا الاتهام.. ومن دون أي شعور بالمسؤولية إزاء لحظتنا الراهنة وخطورتها.
هل تستمر (العراقية) على هذه الحال؟ نعتقد أنها، وكما هو الحال العام في البلد، أمام مفترق طرق تكون معه (العراقية) أمام واحد من هذين الاحتمالين:
- إما أن تكون جزءا من عملية سياسية ديمقراطية، من محرماتها البعث الصدامي.. وهذا ما سيملي عليها تطهير رجالها وبرامجها وعملها من أي مسعى باتجاه تطبيع وضع البعث الصدامي والدفاع عنه.
- تنتصر فيها إرادة (البعث الصدامي) وفي هذه الحال عليها مغادرة العملية السياسية وإعلان معارضتها لها.. أو هذا ما هو متوقع من بعض الموجودين فيها، وبما يملي على الآخرين من غير المتورطين بهذا المنهج أن يفكوا الشراكة مع الصداميين القابعين بينهم.
بخلاف هذا.. بخلاف أن تفكر (العراقية) بحالها وتحسم أمورها سيبقى أداؤها مشوها في إطار العملية السياسية وفي إطار ما تريده هي لنفسها.. لن تستطيع أن تظفر بحلفاء ومؤازرين داخل العملية السياسية.
الآن فشلت (العراقية) فشلا تاما في تبرير صفتها (الوطنية).. والآن ليس بمستطاعها ادعاء تمثيل السنة ومناطقهم.. ولا هي بالقادرة شرعيا على تمثيل البعث الصدامي داخل البرلمان.
لكنها بالتأكيد تحتاج إلى شجاعة تكفي للخروج من حال الشيزوفرينيا.. من هذا المأزق البنيوي الملتبس.. ولن يكون الثمن بأقل من انقسام حاد.. أو خروج كامل لا يشرف البعض في (العراقية) ممّن لا غبار على وطنيتهم وإخلاصهم للعملية السياسية الديمقراطية الجارية في البلد.