TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > نحو تقويمٍ شامل للعملية السياسية-5-..من أين نبدأ بالإصلاح والتقويم..؟

نحو تقويمٍ شامل للعملية السياسية-5-..من أين نبدأ بالإصلاح والتقويم..؟

نشر في: 26 ديسمبر, 2011: 10:03 م

 فخري كريم

يتداخل عاملان أساسيان في تغذية الصراع التناحري بين الاستقطابين في العملية السياسية، ويتمثل هذان العاملان أولاً في خضوع مفهوم المصالحة الوطنية

للاجتهادات المتعارضة والمصالح المتضاربة، وثانياً في انعدام رؤية  واضحة وتفسيرات محددة لمفهوم التوافق الوطني والمشاركة في السلطة. ولعل  تقدم أحد العاملين على الآخر أو التصعيد والمرونة في تفسيرهما، يدفع إلى  مساومات وقتية وتواطؤاتٍ ترتبط بتلاقي مصالح أو مراهنة على عامل الوقت،

وانتظار تغيّرٍ في موازين القوى، ومن ذلك أيضاً التدخلات الخارجية، وما تستوجبه من تهدئةٍ وتراجعاتٍ تكتيكية.

وكما يبدو واضحاً الآن فان جميع الحوارات واللقاءات التي أجريت على مدى الأعوام اللاحقة لسقوط الدكتاتورية ظلت بعيدة عن تلمّس جوهر الإشكاليات التي كانت في أساس خلق بيئة التخندقات والصراعات، وبروزها بمختلف الأساليب على سطح المشهد السياسي، بصيغٍ ومسميات لا تعكس مضامينها الفعلية. وما يظل مستوراً ومموّهاً، يجد تفسيره في الخلافات الجوهرية بين مفهومين حول المصالحة، وحول التوافق والمشاركة في السلطة، وكلاهما، بتفاوت حدة كلٍ منهما، يجانبان الحقيقة ويدفعان باتجاه إدامة الصراع وتغذيته.

لقد حسم الدستور مسألتين مهمتين، هما الموقف من البعث، واعتماد التوافق الوطني وتشارك المكونات الأساسية في حكم البلاد. وبقدر تعلق الأمر بالبعث، صيغت معالجة حالاته الملموسة، بأطرٍ ومساراتٍ إجرائية وقانونية. وفي هذا السياق لم يجر الالتزام باعتماد معيارٍ واحد للمعالجة، وتحريم تجاوزه أو تكييفه وفقاً للمصالح السياسية الفئوية أو ارتباطاً بمساومات تتجاوز القانون وأحكامه. لكن خرق الأطر الإجرائية والقانونية بدأ منذ تدشين قانون "اجتثاث البعث" من قبل واضعه الحاكم المدني للاحتلال الأميركي بريمر، حيث انتقى مئات الكوادر البارزة من أعضاء البعث ومن كوادر قصر صدام، ووضعهم في اخطر المراكز الحكومية وفي المجاميع الاستشارية، ومن خلالهم وبواسطتهم تمت تزكية المئات الذين تسللوا أيضاً إلى مواقع مدنية وعسكرية، بالإضافة إلى تهريب مئات المطلوبين بمراتب عسكرية عليا إلى خارج البلاد بهويات مكتب بريمر، بتزكية من العناصر المذكورة، استناداً إلى عدم وجود أضابير جرمية ضدهم في حواسيب القادة الأميركيين. ولم يكن غياب تلك الأضابير مستغرباً، لأن حواسيبهم لم تكن تختزن، سوى أسماء وصور المطلوبين الخمسة والخمسين في مجموعة أوراق اللعب المشهورة.! ومنذ اللحظات الأولى لسقوط الطاغية، تسلّل فدائيو صدام ونشطاء البعث إلى الأحزاب والتنظيمات التي ظهرت إلى العلن، وكل أولئك تقريبا تلبسوا لبوس الإسلام السياسي، الشيعي والسني، فيما انضم الأكثر تشدداً وإجراماً إلى المنظمات الإرهابية بمختلف مسمياتها، أو تجمعوا في مافياتٍ إجرامية، ومارسوا الخطف والسرقة وقطع الطرق والسلب والنهب، وسرعان ما تحولت هذه المافيات إلى اذرعٍ مسلحة وشبكات رصدٍ للمنظمات الإرهابية التكفيرية.

 ومع بدء الحوارات لتدشين العملية السياسية، برعاية أميركية، اختلطت الأوراق وتداخلت المسميات، وبدلاً من التركيز على التوجه لإجراء مصالحةٍ وطنية مجتمعية، راحت السفارة الأميركية ودوائرها المختلفة تلتقط من زوايا النسيان عناصر وأزلاماً من العهد المباد، وتقدمهم كرموزٍ للمصالحة والمشاركة في العملية السياسية. لكن الملفت، ورغم تغيّر الوجوه وحلول شخصيات معروفة أو هامشية، سواء في حضن المعارضة، أو في إطار النظام السابق، عوضاً عن الموجة الأولى التي قدمتهم إلى الواجهة الأجهزة الأميركية، فان مصطلح "اجتثاث البعث" ظل مطلباً متداولاً للطبقة الجديدة ممن اُفتُرضَ فيهم تمثيل المكون العربي السني، وشيئاً فشيئاً تحول مطلب إلغاء "الاجتثاث" إلى شرطٍ لأي تفاعل في العمل المشترك، وتدخلت الجهات الأميركية وأطراف أخرى، لتسوق الشرط المذكور وتسوغه، انطلاقاً من مرونة مطلوبة لإنجاح العملية السياسية!

 إن تكريس هذا التوجه في الأوساط التي انخرطت في العملية السياسية، بدعوى تمثيل المكون العربي السني، أو تلك التي ظلت تحمل السلاح في مختلف التنظيمات الإرهابية والتكفيرية، أدى إلى إيحاءٍ خاطئ شوّه مكانة ودور "المكون" الذي عانى الأمرّين، هو الآخر من النظام الاستبدادي، ودفع تضحياتٍ جساما في مواجهة طغيانه. لقد تسللت بعض الوجوه الناشطة التي كانت على هامش الحياة السياسية قبل نيسان ٢٠٠٣، إلى الحراك السياسي في مجرى تطور العملية السياسية، لتحتل مواقع متقدمة، كحامل للمكون العربي السني ومناطق نفوذه، مستغلين الارتباك الذي ساد الأوضاع بعد التغيير والتعقيد والتشوهات التي خيمت على أجوائه. والحال إن هذه العناصر لم تلتقط لحظة التحول، لتوظف متغيراته باتجاه تكريس دورٍ ايجابيٍ فعّال للقاعدة الشعبية التي تسلقوا باسمها إلى مرافئ العمل الحكومي والسياسي، وترد على المزاعم التي أشاعها بقايا النظام الصدامي وأزلامه، وهي مزاعم ملفقة عن الترابط العضوي بين النظام المنهار والمكون العربي السني، وإنما فعلت العكس تماماً، بتوسيعها دائرة الالتباس وخلط الأوراق، واختزال شعاراتها وتوجهاتها، وكامل نهجها السياسي، كما لو انه امتدادٌ للنظام الذي سقط بلا عودة، ولم يتورع العديد منهم عن تزكية الجرائم والحروب والاستباحات التي ارتكبها بحق الشعب العراقي، وإظهارها بوصفها "أمجاداً وطنية".

إن اخطر ما نجم عن تسلل هذه العناصر والنهج الذي اختطته، تعطيل تفعيل الحراك السياسي بين الجيل الذي لم يتلوث بمثالب الدكتاتورية، ويتقدم لتمثيل المكون العربي السني ومناطقه ومصالحه الحيوية.

وهذه الخطيئة يتحمل وزرها أيضاً الطبقة السياسية وأمراء الطوائف الأخرى الذين لم يتعاملوا بحكمةٍ وتعقّل مع المزاعم الهادفة لعزل المناطق الغربية وتلك المتميزة بالغالبية السكانية السنية، وإنما أخذوا قاعدتها الشعبية المفجوعة هي الأخرى بجريرة من ادعوا تمثيلها، مع أن النهج الوطني كان يحتم عليها إجراء فرزٍ يؤدي إلى عزل العناصر التي سعت ولا تزال تسعى لإدامة خلط ملتبس للأوراق، لصالح إعادة إنتاج امتداداتٍ سياسية للبعث والنهج الصدامي.

ورغم خسارة سنواتٍ في تعطيل بلورة قياداتٍ شابة طموحة في المناطق المذكورة، وخلق بيئة إيجابية لنشاطها تستطيع من خلالها التقدم إلى صدارة الحياة السياسية، فأن مثل هذا النهج يظل يكتسب أهمية استثنائية في المراحل الآتية.

إن اجتثاث جذور الإرهاب والتكفير لا يستلزم زيادة عديد القوات المسلحة وتزويدها بمختلف صنوف الأسلحة، بل قبل ذلك، تصفية البيئة السياسية الشعبية "الحاضنة" لها.

ومثل هذا الإنجاز يتطلب إجراء انعطافةٍ في الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والارتقاء بها إلى مستوى طموحات كل المكونات العراقية، وتحديد مرحلةٍ انتقالية، يجري خلالها تفكيك نظام المحاصصة الطائفية، والانتقال إلى قاعدة المواطنة الحرة، وقيم العدالة الاجتماعية ومبادئ تكافؤ الفرص والمساواة في الأقدار والحقوق والحريات.

لقد لعب الانفراد في السلطة ونزعات التسلط وتغييب الآخر، التي اتخذت أبعاداً منهجية منذ بدء الولاية الثانية للسيد المالكي (رقم ٢) الذي بقي خلافاً للآمال التي راودتنا، في "لحظة غياب الوعي"، نسخة متعالية للمالكي (رقم ٢) مع تورمٍ في الجينات السالبة التي تميل إلى التعجرف والادعاء. وما لم يوضع حد، عاجلاً، لهذا النهج ومنطلقاته ومنظومته الفكرية والسياسية والنفسية، فان من الصعب الحديث عن "سيرورةٍ آمنة " لتطور العراق الموحد الديمقراطي، وضبط إيقاع أزماته، بما يحول دون الانحدار إلى تداعياتٍ لا أحد يستطيع لجمها وتقدير عواقبها.

ولكن من أين ينبغي أن نبدأ لإيقاف التدهور؟

لا بد من أن نبدأ من تقويمٍ يعيد بدقة ووضوح تحديد مفهومٍ موحدٍ لجميع المصطلحات والمفردات التي تقوم في أساس العمل المشترك بين جميع المكونات، ووضع برنامج إصلاحٍ وطني، ونظامٍ مرشدٍ وملزمٍ للرئاسات الثلاث، والعمل في مختلف الاتجاهات للتحول إلى دولة المؤسسات. ولكن الأهم في ذلك تكريس آلية وطنية وسياسية تُحَجِّم نزعات الانفراد والتسلط ومصادرة إرادة الدولة.

كيف لنا أن نبدأ....؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram