TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > نحو تقويمٍ شامل للعملية السياسية -6- ..وقف التدهور..مدخلٌ للإصلاح والتغيير

نحو تقويمٍ شامل للعملية السياسية -6- ..وقف التدهور..مدخلٌ للإصلاح والتغيير

نشر في: 27 ديسمبر, 2011: 10:01 م

 فخري كريم

من حقّ المواطن أن يقلق ويشك في الوقت ذاته، من هذا الاحتقان السياسي وتجلياته التي تبدو أحياناً كما لو أنها مقصودة من حيث التوقيت أو الانفلات أو البواعث الخفية

التي لا يجري التعبير عنها بوضوح. وليس عصياً على المتابعين لتوالي مشاهد الأزمات، إدراك الأسباب الحقيقية لها، خلافاً لما يجري الإعلان عنه أو التأكيد عليه.

فإذا أزحنا جانباً المطالب والاشتراطات التي أصبحت معروفة، بل ومفضوحة، وإذا تجاوزنا شكلاً، الأطر والمتطلبات الديمقراطية لإدارة الحكم وقيادة الدولة، وهي تشكل الأساس الراسخ لأي دولة مدنية، فان الصراع المستور والمموّه عليه يدور من حيث الجوهر حول من يحكم البلاد. وليس المقصود هنا الأكثرية أو الأقلية أو الأطر التي تتحكم فيها مستوجبات التوافق الوطني والمشاركة في الحكم، وهي الصيغة الأنسب التي أخذت بها العملية السياسية الجارية، وإنما يتجسد جوهر الصراع في المفهوم الطائفي للحكم، رغم كل الادعاءات المضادة للطائفية التي يتنافس على التبرؤ منها الطرفان المتخندقان طائفياً في العملية السياسية. وقد بات هذا الصراع يعبر عن نفسه منذ اللحظة الأولى لسقوط النظام الدكتاتوري في ٩ نيسان عام ٢٠٠٣، وتطور عبر مراحل مختلفة، كانت أكثرها انحطاطاً المواجهة المسلحة والقتل على الهوية. ولم يكن ذلك بمعزل عن التدخل العربي والأجنبي السافر ولا عن البيئة الطائفية التي خلقتها تلك الدول التي لم تستقبل التغيير في العراق بارتياح، رغم معارضتها صدام حسين ودعم العمل على إسقاطه، وفقاً لسياقاتٍ معينة، لم تكن بمنأى عن انحيازاتٍ في الاختيار لصالحٍ وجهة تطمس التركيبة السكانية والسياسية في البلاد. واعتمدت هذه السياسة المنحازة طائفياً في كل مراحل نشاط المعارضة العراقية على دعم الولايات الأميركية، ولاحقاً إدارة بريمر وقيادة الاحتلال.

إن ردود الأفعال السياسية من قبل الأطراف الأخرى كان عليها أن تركز على القاعدة السياسية الانتخابية، وتتبنى إطاراً ديمقراطياً للمواطنة، يعبئ العراقيين جميعاً، لا أن تنجر إلى الرد بما يوحي بتغييب الآخر وتجريده من المشاركة في سلطة القرار، الأثر السلبي البالغ على تكوين المشهد السياسي ومآله.

لقد آن الأوان لوضع الأمور في نصابها، ولكن بالتزامن مع اعتماد وتكريس المبادئ والقيم والقواعد الديمقراطية في أصول حكم البلاد، وتصفية أي مظهرٍ للانفراد والتسلط والاستئثار، أو إضفاء أي طابع يتعارض مع مضامين وحيثيات النظام الديمقراطي والدولة المدنية.

ووضع الأمور في نصابها يعني بوضوح ترسيخ القناعة باستحالة العودة إلى التركيبة البنيوية للأنظمة التي تعاقبت على الحكم منذ نشوء الدولة العراقية في مطلع عشرينيات القرن الماضي، والتي اعتمدت حكم أقلية سكانية، وعطلت بالاستناد إلى قوانين موصوفة، أو عرفٍ متداول، إرادة الأكثرية السكانية، وبهذا النهج المختل، وضعت الدولة العراقية في مواجهة استحقاقٍ تحوّل مع الزمن إلى عاملٍ للاحتقان والتوتر الكامن وشعورٍ ضاغطٍ بالغدر التاريخي. ولم تكن القاعدة السكانية بمختلف مكوناتها مسؤولة ومنخرطة في هذا التيار المشوّه، بل كانت المواجهة السياسية بين الحكم وكل المكونات الشعبية، هي السمة الأبرز في شتى العهود، سواء في ظل الانتداب أو الاستقلال الشكلي أو في ظل النظام الملكي.

 والفضل يعود بذلك لقوة الحركة الوطنية، والتيار الديمقراطي المهيمن عليها، والوعي العميق بالإرادة الشعبية المشتركة لإنجاز التحرر الوطني وتحقيق التقدم والتنمية والتطور الاجتماعي في البلاد، كمهام ملحة وأهداف للعراقيين جميعاً. وهو فضلٌ ارتبط أيضاً، بصعود الحركة الديمقراطية وقيم العدالة الاجتماعية في العراق، كما في سائر أنحاء العالم العربي المتفاعل مع الصعود الإنساني في العالم. كما أن تلك المراحل المضيئة كانت خالية تماماً، من الانحيازات والولاءات الطائفية وتخندقاتها المشوهة.

ولكن من الاستحالة أيضاً الركون إلى إمكانية عكس الحالة المشوهة السابقة وإعادة إنتاج نظام، يعتمد الإقصاء وتجاهل أي مكون آخر، وخصوصاً إذا كان هذا المكون يشكل شريكاً، وطرفاً وركيزةً لوحدة البلاد ومستقبله.

إن الإقرار المتقابل بواقع الحال السائد، لا يكفي وحده لبناء العراق الجديد الديمقراطي، بل الاتفاق على الصيغة المستندة على رفض الطائفية، كخيارٍ للحكم، واعتماد المواطنة وحدها، كـ"وحدة سكانية سياسية" في التشارك. ومثل هذه الصيغة هي الكفيلة بإنتاج الآلية الفعالة لتفكيك الولاءات الطائفية، وأي ولاءٍ أخر، باستثناء ما يعبر عن مصالح أغلبية العراقيين ويجسدها، ويستجيب لمصالحهم المباشرة، ويؤمن مستقبل أجيالهم، ويحقق المصالح الوطنية العليا. ولا يمكن الافتراض بان هذا النهج يمكن أن يسود بسهولة، لكن إمكانياته الكامنة عميقة الجذور، وقد تجد لها الفرصة المناسبة للتحول إلى واقعٍ ممكن.

ولا يجوز ترك الانتقال إلى واقع جديدٍ ينبذ صيغة المحاصصة الطائفية، ويكرس أسس المواطنة، وينزع نحو المزيد من اعتماد آليات الدولة المدنية، بل لا بد من الانخراط في حراك وطني واسعٍ عابر للطوائف ومعازلها "غيتواتها" الكريهة، وتبني توجهاتٍ وشعاراتٍ ورموزٍ تعبر بوضوحٍ عن مثل هذا الحراك. ولإنجاح مثل هذا التوجه يمكن اعتبار السنوات التي تفصلنا عن الانتخابات التشريعية القادمة، مرحلة انتقالية، يجري خلالها إشاعة وعيٍ بالقيم الوطنية لهذا الحراك وأهدافه النبيلة التي من شأنها هي أن تحافظ على وجهة تطور البلاد على طريق الديمقراطية والوحدة الوطنية الحقة.

ولابد من التأكيد بوضوح أن استمرار النهج الطائفي السائد وآلياته المخربة، سينخر في جسد الدولة الهَشَّة ويقوي عناصر تشتّتها، ويحول دون تعزيز مسيرتها الديمقراطية، ويوسّع نطاق الفساد والنهب، ويخلق المزيد من المافيات التي تعبث في اقتصاد البلاد وثرواته، وتلعب دوراً بارزاً في تعميق الانقسام في المجتمع وتدمير نسيجه.

وقبل الشروع بحوارٍ جامع، ينبغي التمهيد بتدابير ومواقف تأكيد حسن النوايا، بإعادة النظر بما يدفع إلى الشكوك والهواجس، وما يقع في أساس التوترات والأزمات التي تستهدف في واقع الحال، الهروب من رؤية الواقع المعاش، وتدوير الأزمات التي تضيق الخناق على حياة المواطنين وأسباب رزقهم وآمنهم وصون كرامتهم واحترام إرادتهم.

وتظل الأولوية لمعافاة الحياة السياسية وتصحيح مساراتها، وثيقة الارتباط بوضع حدٍ "مقوننٍ" للمظاهر المتزايدة حول الطبيعة الفردية المتسلطة في إدارة الحكومة والدولة، والقلق لدى أغلبية القوى السياسية المشاركة في الحكم أو المغيّبة عنها، من تحوّل هذا النزوع إلى التفافٍ على تداول السلطة والآلية الديمقراطية لبناء الدولة.

إن البداية لتجاوز الأزمة الراهنة وتصفية جذورها تنطلق من الانتقال إلى حوارٍ تفصيلي جاد يتناول كل الجوانب التي تظل قنابل موقوتة، وعوامل للإبقاء على أسباب مراوحة الأوضاع في حدود ما هي عليه من عجزٍ عن حل المعضلات المتشابكة التي تواجه المواطنين وتقض مضاجعهم، وتدفعهم إلى حالةٍ مستعصيةٍ من اليأس والانكفاء.

فأي برنامج عملٍ بانتظار هذا الحوار المأمول..؟

وأي قوى لابد من مشاركتها في الحوار.. ؟

وما هو الهدف المباشر الذي ينتظر الناس تحقيقه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram