أ.د.قاسم حسين صالحقد ننفرد نحن السيكولوجيين بإعطاء دور كبير لخبرات ماضية في صياغة أحداث حاضرة، بعكس السياسيين الذين يحصرون إدراكهم ببعدي الحاضر والمستقبل في تحليل ما يجري من أحداث. فأحد أهم أسباب أزمتنا وفواجعنا المستمرة يعود إلى يوم تأسس فيه " مجلس الحكم " الذي كرّس رسميا تعدد الولاءات إلى طوائف وأديان وأعراق وأحزاب وتكتلات..على حساب الولاء للعراق في طقس كان عود بخوره معجون بسيكولوجيا الضحية والجلاّد..
أشاع " عطره " السياسيّون بين الناس المعبئين بثقافة المظلومية..فكان ما كان من فواجع تعدت المائة مأتما في اليوم الواحد.وما كان هذا ليحدث لو ان السياسيين أخذوا بنصيحة أهل الرأي في الاجتماع وعلم النفس السياسي التي صيغت في حينه بتحذير : ( ان المجتمع الذي فيه طائفتان تستحوذ إحداهما على السلطة بمساعدة أجنبية وتتعرض الأخرى إلى الإحباط السياسي والاقتصادي والنفسي، فان الحال بينهما يفضي إلى الاحتراب الطائفي)..وهذا ما حصل .. والأخطر أنه لا توجد الآن ضمانة أكيدة بأنه لن يتكرر..بل أن الناس تضع أيديها الآن على قلوبها بعد أن تأكد لهم أن قادتهم عجزوا عن اتفاق ولو بالحد الأدنى وقبلوا ،وفي هذا ما يخجل، بوساطة من يظهر لهم حسن النوايا ويضمر للعراقيين أسوأها.ومع أن الأسباب المعروفة لعدم اتفاقهم تعود إلى أنهم يفكرون بحاضرهم ومصالحهم الشخصية والفئوية أكثر من التفكير بمستقبل وطن وحياة ملايين فان هنالك سببا سيكولوجيا فكريا هو أن الخلافات بين السياسيين كانت هي التي تتحكم بهم طوال تسع سنوات.وتعوّد على هذا الإيقاع الفكري مصحوب بالقلق يجبر الدماغ على برمجة عملياته العقلية في مراكز اتخاذ القرار الخاصة بالخلافات وتفعيل المراكز الخاصة بالعدوان والانفعالات السلبية..وتحويله،لاشعوريا،إلى مدمن عليها!.وظل كل فريف يضمر للآخر عكس ما يظهره في حال ينطبق عليه المثل القائل:"وجوه متآلفة وقلوب متخالفة". وهنا تحضرنا وصفة نفسية قالتها العرب قبل مئات السنين سبقوا بها علماء النفس:"لو تكاشفتم ما تدافنتم"، وتعني لو أن كل جماعة كشفت ما بها من عيوب للجماعة الأخرى لما حصل بين الجماعتين نزاع أو احتراب وضحايا..والسبب،هو أن الاعتراف بالعيوب حالة صحية تريح النفس وتعقلن التفكير وتضبط السلوك..وللخليفة عمر بن الخطاب قول مأثور:رحم الله امرأ أهداني عيوبي. تلك حقيقة سيكولوجية لو أن السياسيين انتبهوا لها لما حصل ما حصل في (2006 -2008) حين ذبح العراقيون بعضهم بعضا وتفرّق الأحياء بين من فرّ خارج الوطن مرعوبا وبين من عاش فيه مذعورا.وصاروا فريقين متضادين..فريق الجلاّد وفريق الضحية، يغذيهما تاريخ سياسي صوّر لهم أن السلطة كانت بيد السّنة ألفا وأربعمئة عام، وأنها كانت " الجلاّد" فيما الشيعة كانت "الضحية" إلى عام 2003 حيث تبادلت الأدوار وصارت هي الجلاّد والسنّة هي الضحية..في معادلة نفسية تداولها العقل الجمعي لجماهير الفريقين بأن من يمسك السلطة يكون "الجلاّد" ومن يكون خارجها هو "الضحية" ،مصدّرا "عقلهما الجمعي" حكما تعميميا "بالاقتصاص" من المحسوبين على الجلاّد حتى لو كانوا خارج السلطة،بل حتى لو كانوا من المغضوب عليهم. ولأن سيكولوجيا "الحيف " خاصية متأصلة في الطبيعة البشرية،فإنها تدفع الضحية حين تتمكن من الجلاّد إلى أن تفعل به ما فعل بها،وتصل أبشع مشاهدها حين يكون أخذ الحيف يخص جماعة من جماعة وليس فردا من فرد،وحين يحصل "انقلاب" مفاجئ في تبادل الأدوار..ولك أن تتذكر أن ثلاثة آلاف روحا من السّنة والشيعة زهقت في شهر واحد من عام 2007! سيقول كثيرون:اجتزنا الكارثة والحمد لله،وعلينا أن نمنّي الناس بما هو جميل.وتلك أمانينا أيضا ،لكننا ننبّه إلى ثلاث قضايا سيكولوجية تحكمت بالفعل السياسي العراقي، الأولى: إن الفرقاء السياسيين، وتحديدا ائتلاف دولة القانون والعراقية تتحكم بهم البرانويا السياسية القائمة على التربّص والنيل من الآخر حين تحين الفرصة.والثانية: إن حياة العراقيين كانت عبر ثلاثين سنة "عمر جيل" أشبه بأرجوحة تأرجحت (رايحه جايه) من (ضغوط، لاضغوط، ضغوط، لاضغوط....،أو أزّمة لا أزّمة،أزّمة لا أزّمة...)،وأن حياة كهذه لا يمكن أن تراهن عليها، لعدم استقرارها الانفعالي الذي يفضي بطبيعته إلى مفاجآت.والثالثة:إن الغالبية المطلقة من العراقيين تتحكم بهم آلية "التماهي"..وهي عملية نفسية تعمل لاشعوريا على تشكيل سلوك الإنسان بما يطابق سلوك شخص آخر يعدّه "قدوة" أو قائدا، سواء كان من الأحياء أو من الأموات.ومع أننا جميعا نتماهى بأسلوب شخص آخر نعجب به ونتمنى أن نكون مثله في هذه الصفة أو تلك،إلا أن المسحوقين والمغيب وعيهم يتوزوعون على صنفين:صنف يتماهى بالضحية والآخر يتماهى بالجلاّد. والإشكالية..إن التماهي يخلق ازدواجية بين سلطتين داخل الفرد: (سلطة المتماهى به وسلطةالأنا الشخصي)..يفضي الصراع بينهما إلى أن يكون القرار لسلطة المتماهى به..لسبب اجتماعي هو أن المتماهى به يوحّد الجماعة ويزيدها قوة في أوقات الأزمات،ويفعّل الكره الذي يتامى إ
السياسيون.. وسـيكولوجيـا الضحيــة والجــلاّد
نشر في: 1 يناير, 2012: 05:16 م