TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > منطقة محررة: في زيارة قبر كانيتي

منطقة محررة: في زيارة قبر كانيتي

نشر في: 3 يناير, 2012: 06:27 م

 نجم واليعندما اختار إلياس كانيتي وكان ما يزال حياً قبره الذي أرادت بلدية زيوريخ تكريمه به، إلى جانب قبر جيمس جويس المدفون في مقبرة "فلفترن" في زيوريخ، فقد أخذ في حسبانه أمرين مهمين: الأول هو الشهرة العالمية لصاحب "ناس من دبلن" و"يوليسيس"، والثاني هو قدر جويس بأن يظل كاتباً غير مقروء رغم شهرته.
 ولكن أن يكون جويس غير مقروء فهو أمر مفهوم لأن حتى القراء المتمرسين يقفون عاجزين عند قراءتهم"أم الروايات": يوليسيس. لكن لماذا يعتقد كانيتي أنه هو الآخر كاتباً غير مقروء رغم طريقته السلسة وجمله البسيطة وسخريته اللاذعة التي تشبه أسلوب جونيفان سويفت وأفكاره العميقة عمق أفكار كافكا لتسمية اثنين من رموز الأدب المتربعين على عرش الأولمب واللذين لم يخف كانيتي إعجابه بهما.أنها لمفارقة أنه وعلى عكس العديدين من كتّاب اللغة الألمانية، أهمل النقد كانيتي ولم يأت على ذكره إلا في وقت متأخر ليس بسبب صعود النازية المبكر فقط بل أيضاً لأسباب تتعلق بكانيتي نفسه وبسيرة حياته. فعندما صعدت النازية لم يكتب كانيتي أكثر من كتابين، ناهيك عن عدم معرفة جنسية الكاتب الحقيقية. للمرة الأولى تعرف القراء الألمان الى كانيتي ونال إعجابهم في الستينات بعد نشر كتابه الصغير "أصوات مراكش" الذي يصف فيه رحلته إلى هناك، الكتاب الأكثر مبيعاً عند جيل 1968، الذي عشق السفر إلى مراكش. أما جائزة نوبل للآداب التي نالها 1989، فجعلت شهرته تصبح عالمية.ومع ذلك حتى اليوم يهز البعض رأسه عندما يُسأل، إذا كان قد قرأ عملاً لكانيتي؟ والمصيبة أكبر لقراء العربية، فلا يحضرني هنا أكثر من كتابين مترجمين له للعربية: "أصوات مراكش" و"المحاكمة الأخرى" وكلاهما ترجما عن لغة ثالثة! ولكن إذا كان الأمر عندنا بسبب الترجمة، فلماذا في ألمانيا والناس يستطيعون قراءته باللغة الأصلية؟ ربما لذلك علاقة بحياة كانيتي الغريبة.فعندما حصل على نوبل حار العديدون بجنسيته: هل هو ألماني، نمساوي، سويسري، بلغاري أم بريطاني؟ ويعود ذلك إلى تشابك أصله وهجرة عائلته منذ زمن أجداده، عبر بلدان عديدة.فعائلته اليهودية السفارديمية كان عليها مغادرة اسبانيا في القرن الخامس عشر مع طرد العرب من هناك ومثل الكثير من عائلات السفارديم، لجأت العائلة إلى الدولة العثمانية لتستقر بمدينة "روتشيك"ببلغاريا. في روتشيك التي تُعتبر حتى اليوم مصهراً للثقافات والتي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية، وُلد كانيتي عام 1905.هكذا حمل كانيتي جواز سفر تركياً. وليس من الغريب أن يعرف كانيتي نفسه: "ألماني أنا بغطرستي، يهودي بلجاجتي، اسباني بكبريائي، وتركي بكسلي". الثقافات تلك التي عددها كانيتي تركت عليه ظلالها. كانت طفولته مسبوكة من خليط لغوي بابلي: مزيج من البلغارية، التركية، الاسبيونيلية (الإسبانية والسفارديمية)، اليونانية والألبانية. أما الإنكليزية والفرنسية فتعلمهما لاحقاً، نفس الشيء مع اللغة التي سيختارها للكتابة: الألمانية.الطريف هو أن الألمانية، كانت اللغة التي تحدث بها والداه كلما أرادا ألا يعرف الأبناء عن أي موضوع يتحدثان.لهذا السبب سحرت اللغة "السرية هذه" الطفل كانيتي وزادت فضوله على تعلمها وبسرعة.الموت المبكر للأب (بعد انتقال العائلة إلى لندن) دفع العائلة الى التنقل بين بلدان أوروبية عديدة: من بريطانيا إلى النمسا، إلى سويسرا وإلى ألمانيا. بعد تسلّم النازيين السلطة في الثلاثينات وضم النمسا إلى دولة الرايخ (ضم الفرع للأصل، قال هتلر!!)، هاجر كانيتي إلى لندن ليحصل بعدها على الجنسية البريطانية، هناك عاش حتى انتقاله إلى سويسرا ولتكون زيوريخ محطته الأخيرة التي مات فيها عام 1994.كاتب من الصعب إلحاقه بقومية، مفكر بلا وطن، يهودي بلا يهودية، شخص هارب دوماً من القوالب والتعريفات، غير القابل للتصنيف في خانة معينة، حتى سياسياً. ذلك كله جعله يصبح غامضاً للبعض ومغرياً للبعض للآخر. وسواء تعلق الأمر بشخصيته أو بمشروعه الكتابي فقد ظل مشروعاً غير مكتمل. أصلاً خطط لكتابة ثمانية مجلدات بعنوان "الكوميديا الإنسانية للمجانين"، لكنه لم يكتب إلا جزءاً واحداً: "الانخطاف"، روايته الوحيدة.عمل جبار كتبه وعمره 25 عاماً، عمل جعل عملاقين، مثل هيرمان هيسه وتوماس مان يكتبان عنه بحماسة، عند صدوره عام 1935.سنوات طويلة حتى العام 1960 عمل كانيتي على كتابه النظري "الحشود/الجماهير والسلطة"، يتأمل انعكاس الحشود والتجمعات على مسيرة قرن تراجيدي لم يبخل بالجماهير؛عمل امتزجت فيه النظرة الأنثروبولوجية بالفلسفة والأدب، بعد هذا العمل نُشرت كتاباته اللاحقة التي ظهرت على شكل اعترافات ويوميات ومذكرات، والأجزاء الأربعة لسيرته الذاتية. "العالم منهار، وعندما تكون لدى المرء الشجاعة على تصوير انهياره، يصبح ممكناً إعطاء تصور حقيقي عنه". واحدة من جمل كثيرة كتبها كانيتي ولا تزال قيمتها قائمة حتى اليوم، خاصة لمن يزور قبره اليوم ويسمع ما يدور حوله أو يسمع الأخبار القادمة من بلاده وهي تنذر بكوارث قادمة وحروب.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram